الطبيعة في التشكيل

ثقافة 2020/11/21
...

    ناجح المعموري
 
كنت قد ذكرت في مقال قصير نشرته صحيفة الصباح يوم 2/ 12/ 2019 آراء عن أهمية مجلة رواق التشكيل وما افضت اليه من ملاحظات قدمت خطاباً جوهرياً، واستطعت التوصل الى معانٍ أراد المشرف العام، الفنان قاسم سبتي الافصاح عنها، ولكن التكتم هيمن عليه، وذهبت لاهمية هذه المجلة المهمة وذات التنوع في تعددات العناصر الفنية في اختيار المواد، والتعميم اللائق والمهيب والمتابعات، على الرغم من ان بعض المقالات الطويلة هي الاقرب الى السيرة منها الى التشكيل والتجربة الفنية
 وسجلت ملاحظة اخيرة في مقالتي القصيرة عن" رواق التشكيل" بأن هذه المجلة تحتاج العودة لها مرات عدة، لأنها تستحق العناية والقراءة والفحص، وهذا ما تبدّى بالنسبة لي، لأني وجدت عدداً من الفنانين الذين شغفت بهم وكتبت عنهم، وشغلتني لوحاتهم المنشورة في الاعداد الصادرة او في دليل المعارض السنوية ومن هؤلاء الفنانين مكي عمران/ عاصم عبد الامير/ يسرى العبادي/ ستار درويش. 
ليس هذا فقط بل لا بد من الضرورة الاشارة للمعارض المشتركة عن الطبيعة العراقية، وهي من اهم التجارب التي لفتت الانتباه للدور المركزي الذي يتمتع به التشكيل العراقي بالتركيز حول الهوية، مثلما يعني بأن هذه التجربة تومئ لذاكرة مبكرة عرفتها الحركة التشكيلية العراقية. بوقت مبكر واعتنت كثيراً بالطبيعة وأسست تلك العتبات الاولى ما هو جوهري في مضمار الجمال الذي تمنحه الطبيعة. 
توفرت لي فرصة مهمة من بين الكثير من المطبوعات التي قدمتها جمعية التشكيليين العراقيين ما ساعدني على متابعة العناية الفنية بالطبيعة، عبر كتابين عن معرضي 2018 و 2019 وهما يكفيان المعني لفحص الاعمال ولو من خلال ملاحظات عامة وليست تفصيلية.
واشار الفنان قاسم سبتي، المشرف العام لاهمية الاصرار على اقامة معرض للطبيعة، وهو يعرف بشكل جيد بأن هذا الانشغال يثير استغراب الكثير من الفنانين، في وقت لم يعد هذا الاهتمام ضمن حضور المعارض او القاعات الفنية. وانا كمتابع اعتقد بأن ملاحظة قاسم سبتي تنطوي على وعي لأهمية الطبيعة، لان حضورها باستمرار، ينطوي على استمرار تواجد الحياة، الانبعاث، الخصوبة. ومثل هذه التصورات هي التي ذهبت اليها الفلسفة الحديثة، واكد عليها كاسيرار وتعامل معها بوصفها حضوراً جلياً وجوهرياً بالاستمرار ثنائية الذكورة والانوثة، وقد صاغا معاً التمظهر المتبدّي بالطبيعة.
 وما أريد الذهاب اليه الاشارة الى ان الفلسفة المعاصرة اهتمت كثيراً بالشجرة، لأنها انثى/ امرأة وهي بحضورها تستدعي الذكورة.
 وتمظهرات الطبيعة بكل تبدّيات لا تعني نوعاً من تجاهل التنوع الفني وكل ما تعرفت عليه الفنون، بل هو رسم الطبيعة ــ تعبير عن حضور الانماط الرمزية التي اشار لها باشلار. لذا فالحضور المكثف للطبيعة، لا يعني سيادة الالوان وانبعاث الحياة بعد موتها، بل هي تعني ديمومة الاتصال الادخالي بين المذكر والمؤنث .
لكن هذا الاهتمام الواضح بالطبيعة عام 1918/ 1919 لا يعني تجاهل المدارس الحديثة مع التجربة التشكيلية العالمية. ونحن نعرف بأن الفن العراقي له مرتبة متسامية وتعلم فيه الكثير من الفنانين العرب. واتخذ الكثير من الاسماء الفنية مكانة متعالية في فضاء الفن العالمي.
الطبيعة بحضور كثيف ومزدحم بالتشارك، يستعيد دور الرعيل الاول واهتمامه بالطبيعة والسفر الى الريف البغدادي وشمال العراق، مثل هذه العناية اعتراف بالدور الكبير والمتميز المحفوظ بالذاكرة، مثلما تشف الاعمال عن التحولات الاجتماعية/ السياسية/ ولعل ابرز ما يمكن الاشارة إليه، لوحة الفنان "محمد كاطع" شائعة الحضور في المحافظات الجنوبية وحتى في بغداد، حيث تأثير الحرب على غابات النخيل التي تحولت الى مقابر، انها اهم الوثائق التي عرفناها خلال حرب مدمرة، وايضا لا بد من الاشارة الى حياة الجنوب عبر الاهوار، تلك الحياة الدالة على الاصول الاولى وعلاقتها بالحضارة السومرية، مثلما تذكرنا بالدمار الذي مارسه النظام البعثي الفاشي وهو يجفف الاهوار في واحدة من أهم وأخطر الجرائم في تاريخ ملاحقة وإبادة الجماعات ذات الأصول.
بمعنى أستطيع القول بأن معارض طبيعة عراقية شهادة الالوان عن الحياة تنطوي على شفرات لثنائية الاتصال الادخالي واستمرار حضور الاسطورة وطقوسها المقترنة بالربيع والانبعاث وتجديد الحياة. معرض طبيعة عراقية، من التجارب الفنية المهمة التي ستظل بالذاكرة، وعلينا تعزيزها والايعاز للمحافظات لتغذيتها والذهاب بها الى عتبات متسامية. 
فالطبيعة ملمح دال على قوة الحياة وديمومة التواصل، الانبعاث ذاكرة سردية، مكتفية بوجودها الانطولوجي لأن الشجرة صارت مركزاً فلسفياً في الحضور الثقافي القسري.. نحن مع الغابات الخضراء، على الرغم من أننا ذهبنا مع الغابة السوداء للفيلسوف هايدجر.