زهير الجبوري
قدم القاص حسن الغبيني مجموعته الجديدة (عدم أبيض /2020)، وكانت على درجة واضحة في التنوع المضموني، وقد طرحت نصوص المجموعة التداخل الأجناسي في بنية السرد القصصي، وهذا ينطوي على قدر كبير من الخزين الفني في راهننا المعاصر، مع ظهور عوامل الرغبة في التنوع والانسراح نحو كتابة نصوص بمواصفات اللّغة المعاصرة، ومع وجود الأثر الاجتماعي والسياسي والبيئي، فقد اتجه القاص نحو تكريس حقيقة المحنة في واقعه، الى بنية حكي، ومحاولة جعل هذه البنية أكثر تشويقاً عبر إطار السرد الافتراضي، وانفتاح المخيلة واستدعاء الأحداث التي لها جذر حقيقي في هذا الواقع حيث (الشخصيات الملفتة للنظر، والأماكن، والأحداث المروعة) كلّها ادوات اشتغل عليها، وهنا بالذات تكمن اللّعبة السردية التي أرادها (الغبيني) من خلال وجود واقع مليء بالأحداث، ولكن سلطة الحكي تحكم تغريبية تنسجم مع قبول المتلقي لوحدة البناء في كل نص سردي، وهو انعكاس محيطي عند القاص حين يدرك أن كل ما يدور حوله هي نصوص لا بد من استثمار تفاصيلها، بمعنى أن كل ما يحصل من تداول شفاهي في حياتنا نتيجة عوامل أفرزتها ظروف معينة، هي في حقيقتها مدونات لا بد من استثمارها..
في (عدم أبيض)، ثمّة حضور متفاوت لشخصية القاص في نصوصه، وهي طريقة تستدعي قبول واقعية القصة رغم بعدها المخيالي ودلالات الحكي فيها، وفي الوقت ذاته تصبح لغة القص ذات بناء متكامل الأبعاد حين يؤثث لها عوامل التلقي، لكن حسن الغبيني يفقد صفة (الرائي) من خلال تشابك أدواته في الكتابة، فهو يقترب تارة، ويبتعد تارة اخرى، ولا ضير في ذلك اذا كانت الوظيفة الاساسية قد قامت بدورها، ولكنه في الوقت ذاته اعتمد على حفريات الحكي، وجعل الواقع المعاش بكل احداثه ذا بُعد شبه مثيولوجي، ليعيد انبعاثه من جديد وبلغة تلقائية سلسة، وقد تكررت كثيرا عنده في كتابات سابقة، ما يؤكد ميوله في كتابة هذا اللون من الكتابة السردية..
إنّ أهم ميزة اعتمدتها نصوص المجموعة، تماثلها للوعي، وللهاجس المستفز من خلال الوعي ذاته، وإلّا ما معنى كتابة نص قصصي لحالة نتجت عن فاجعة أليمة في مدينة الحلة، ألا وهي قصة (البرج)، تلك القصة التي تروي سقوط برج اتصالات المدينة في القصف الأميركي في العام 1991، على إثرها روت الناس العديد من الحكايات، وكانت بعضها ترتبط بعقائد دينية، إذ سقوط البرج لم يسفر عن أية أضرار او يصيب اي فرد، ولقربه من مرقد (ابن النما) فهو لم يقتل أي انسان اثناء سقوطه، وغيرها من الحكايات التابعة له، وحتى بعد اعادة تأهيله ـ أي البرج ـ في بداية العقد التسعيني، ظهرت حكاية الصقر الذي وقف في اعلى البرج بوصفه نذير شؤم، إذ تدارك الناس في موضوعته التأويلات الكثيرة، هنا بالذات يتحول الحدث بكل ما يحمل من حقيقة واقعة في الأصل، الى مادة خصبة لانتاج الحكي، وبلغة شفاهية تصل الى عامة الناس ..
وفي قصص (47، والقبو، ومسعودة، وابو العنس، ويباس، ومكرودة)، تتكرس دلالة الحكي على درجة كبيرة من الإطار الظاهري المتماثل مع رمزية الشخوص المشتغل عليها في كل قصة، فهي تنطلق من جذور الوعي الحقيقي لظاهرة اجتماعية، استعارها الغبيني وادخلها في بوتقة النص، وفي اشتراطاته السردية، ففي قصة (القبو) تظهر شخصية (ابو العجائز) بوصفها ظاهرة اجتماعية ساخرة لها مواصفات المفارقة، فهو بشر، لكنه (مثل حيوان هائج يندفع في كل الاتجاهات، يجمع الأوساخ المتطايرة التي تدفعها الريح) ص93. وكذلك في قصة (يباس)، إذ تظهر انعكاسات الواقع المرير على شخصية (مسار) التي اصبحت ضحية حياة أليمة ليحط بها المطاف في (بيت دعارة/ متداعٍ)، عثر عليها عشيقها بعد سلسة من البحث والتقصي، لكنها أخفت شخصيتها الأولى وأنكرت اسمها .. (قلت لها: أنت مسار أليس كذلك؟ / لا أنت واهم، أنا لست مسار) ص82. (قلت مع نفسي الآن اصبح اسمها حمدية) ص83.
أما في قصص (الشوماني وحذاؤه العجائبي، والذي ولد مبتسماً، وعدم أبيض)، تتداخل فيها لعبة الحكي مع بنية التشويق الافتراضي، وهي عادة ما تكتب للكشف عن أسلوب تعبيري لحالة او ظاهرة معينة، وهي تعبر في وجهها الآخر عن الحس الشفاهي/ المتداول في اليوميات/ او لنقد حالة معينة، فحذاء الشوماني الذي (شاهدوه يلتهم الطماطم) هو تعبير مجازي/ افتراضي، لقراءة واقع سياسي او اجتماعي، وهي جزء مهم من السرديات الساخرة التي كتبت في القصيدة العراقية أيضا، وتحديدا في تجربة الشاعر موفق محمد وكاظم الحجاج، وكذلك نقرأ قصة الوليد الذي ولد مختوناً والذي تحول الى قط والى ذئب (يطارد ضحية) ص40 ، وغير ذلك من التفاصيل، انها سرديات الاستدعاء، إذ تقوم على توظيف الأشياء، ثم طرحها بأسلوب سردي مثل الذي قرأناه.
حسن الغبيني، قاص تستفزه حكايات الواقع ويومياته وشفاهياته، فهو يدرك انها جزء من خطاب ثقافي، لذا كانت هناك استدعاءات صريحة في نصوصه، انطوت على تفاصيل لها دلالاتها الواضحة، ولم تكن سوى حفريات استعيرت من الواقع وأحيلت الى النص وفق اشتراطات اللغة السردية..