بعيداً عن اللعبتين المعلنة والخفية
ثقافة
2020/11/22
+A
-A
زعيم نصار
إنني لم أستطع قراءة روب غرييه في بلد متخلف، فلا
وزن لرواية الغثيان في بلد يموتُ فيه الطفلُ جوعاً.
جان بول سارتر
بمجرد أن يتم وعي فكرة ما، تقوى وتتضح، أن الواقع المعيش يستحوذ على الإنسان بكليته، في جانبه المـادي، وفي كينونته كحدس وعاطـفة وخـيال، فإذا كـان العقل كما قـال: (مالبرانش)، هو (أستاذنا المشترك) فان كلّ واحد منّا يحمل في ذاته أشياء كثيرة تخصه أساساً وتميزه كفرد، فالواقع الإنساني أكثر خصوبة من الحقل العقلاني، عقلاني من جذر عقل الشيء، أي ربطه واعتقله.
لهذا أشاطر اندريه جيد رأيه حينما يؤكد أن: (في ميدان العواطف لا يتميز الواقع عن الخيال) ولأنني كشاعرٍ أستندُ على خيال يستند بدروه على نوع من الحقيقة أو على واقع، هو واقعنا جميعاً كمثقفين، إذ نصوغ رؤيتنا من نتائج هذين الحقلين الذين يقوم عليهما نشاطنا الإنساني والإبداعي، وهما الواقع والخيال، الواقع يتكون من عوالم متنوعة ومختلفة منها: العالم الاقتصادي، العالم الاجتماعي، العالم السياسي، العالم الديني، عالم الجسد والجنس، أما الخيال فعوالمه، الشعر، الرواية، الفن التشكيلي، الهندسة المعمارية، السينما، المسرح، ويبدو لي أن الثقافة هي الرهان الذي يسـتحق المغامرة، والحـل الوحيد الذي يمكن أن يـحل الأزمات، ويقدم الرؤى لبـناء مستقبل الدولـة والوطن الذي يريده الشعب.
الثـقافة طريقة حياة كما يقول تايلور. وهي رؤية للعالم، فالثقافة سلوك يومي يعكس طريقة الوجود للأفراد، كما يعكس أفكارهم، وخياراتهم وما لديهم من أجوبة عن الأسئلة الجوهرية في الحياة، الثقافة طريقة حياة بكل ما للكلمة من معنى واقعي، الثقافة هي طقوس وقيم وعقائد واختيارات، الثقافة هي مجموع ما يحبه الفرد من أفكار ورموز وتراث.
ومن هنا يقدم المثقف بما لديه من طاقة وحيوية وإمكانيات رؤيةً مستقبلية مصاغة من جميع المستويات العلمية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية وإضافتها إلى رؤيته الفكرية والإبداعية، وبهذا يستطيع أن يعطي وحدة حضارية لا تتجزأ، فهو ينظر للثقافة بمعناها الشامل، النظري والتطبيقي، الإبداع باللغة، والإبداع بالعمل، فالإبداع الاجتماعي المدني والمؤسساتي-التنظيمي والإداري- والإبداع الأدبي صورة ثقافية واحدة.
ولهذا على المثقف أن يكون مثقفاً نقدياً، واقعياً، وناشطاً مجتمعياً.
هل نستطيع تحرير المثقف من أوهام العلاقة مع ثقافة السلطة وأقنعتها؟ والانتقال بمخيلته الى مناطق محررة خالية من وجودها، أقصد المثقف النقدي بوصفه ناشطاً مجتمعياً، الذي يروق لي ان أرسخ مفهومه بديلاً عن مفاهيم وتوصيفات أخرى، تتنوع حسب الرؤى والايديولوجيات، مثل المثقف الرومانسي، والملحمي، والنقدي، والعضوي، والبدائلي، وحتى المثقف المقاول.
المثقف النقدي المجتمعي مختلف بميزاته الجديدة، فنجده متضامناً مع الشعوب في كل مطالبها الانسانية لتغير الحياة العامة من الجشع السلطوي والسياسي، للمثقف النقدي المجتمعي دوره في التحولات الاجتماعية والتغيرات السياسية، بعد نزوله للشارع والمقهى، والعمل مع الجماعات واسترداد حقوقها، وكما حصل بوضوح في احتجاجات تشرين.
أما السلطة فلها طرقها ومغرياتها في اجتذاب المثقفين، وإسكات نقدهم الحقيقي، ربما نحن بحاجة لقوة كقوة نيتشه الذي ذهب المذهب الكينوني، لأنه كشف عن لعبتين أبعد وأشمل داخل السلطة، وهي ان السلطة المعلنة تمارس حماية وتغذية السلطة غير المعلنة، التي هي بمثابة المؤسس والعميق، والمقرر والمسمّي لها. فاللعبتان المعلنة والخفية تقتلان، وتقصيان، وتغتالان الإرادة في براءتها الأولى، الارادة التي شوهتها السلطة، ومزقها الاقتتال والصراع داخل شبكات القوى الكبيرة والصغيرة، المتكاثرة كشبكة ديدان متضامنة، متعانقة، ملايين من العناكب تصطاد الطيور وتقتنصها، لعطشها وجوعها، وتحوّلها الى خفافيش ليل. هنا على المثقف النقدي المجتمعي أن يتسلح بإرادة الاختيار، وارادة المعرفة كخطاب شخصي، ويتمسك بفردية الإرادة ازاء لعبة السلطة على حد تعبير فوكو الذي يستعيد رسالة زرادشت ليقيم تكنولوجيا للسعادة المجهولة المطاردة ازاء تكنولوجيا السلطة. هل باستطاعتنا ان نستخلص شرعية الإرادة من دون سلطة، لكي تستمر حركة الاحتجاج ورؤيتها؟ لقد كثر المتسلقون وحاول كل واحد منهم ان يقنع نفسه، والآخرين بانه صاحبها والداعي لها، فتراهم يتصارخون اننا نحن أهلها ونحن الذين بدأنا وقلنا وكتبنا وخرجنا، ولكنّ الذي حصل بعد ذلك كان مخزياً، لقد تاقت الأعناق للمناصب، وامتدت نحو الكراسي الفارغة والشاهقة، واندمجت مع أشباح الأحزاب ومرتزقتها، انه لمخجل هذا الاستذئاب السلطوي الذي حوّل كتاباتهم إلى طبول قارعة للسلطة، كما كان يحصل في زمن الدكتاتورية، فمن المستحسن ان لا يلهث المثقف ويحفظ ماء وجه كتابته وابداعه، بعيداً عن المناصب وكواليس الفساد.
هذا يذكرنا بما قاله مرّة «غراهام غرين» من ان المثقف يمكنه ان يكون أعظم المعارضين لكنه بالتأكيد سيكون أسوأ الحكام ان سُلـّم الحكم، على المثقف النقدي الحقيقي أن يظلَّ مهما كانت المغريات من أعظم المعارضين، ليتحرر من أوهام السلطة ويحرر كتاباته بمعجزة الإرادة والخيال والعودة الأبدية للحرية.
إن دور المثقف في السياسة، سيكون كبيراً ومؤثراً في بناء دولة ومجتمع ديمقراطيين وكما قال جان جنيه مرة انك تدخل الحياة السياسة لحظة نشرك مقالات في مجتمع ما، ومن ثم إذا أردت أن تبتعد عن السياسة تماماً، فلا تكتب مقالات ولا تجهر بقول. وصرح جان بول سارتر بوضوح مرير (إن الأدب لا ينقذنا أكثر مما تنقذنا السياسة، فالمجاعة شر مطلق، أتعتقدون أنني لم أستطع قراءة روب غرييه في بلد متخلف، فلا وزن لرواية الغثيان في بلد يموت فيه الطفل جوعاً). نعم إن الذين يعيشون الشر هذا ويعانونه عليهم أن لا ينكفئوا على أنفسهم يجب أن يصرخوا منددين.
في ثقافتنا العراقية هناك نشاط واضح للمثقف الواقعي المستقل الذي باستطاعته أن يقاوم ويناضل من اجل أن لا تموت الأفكار الحية العظيمة، أن لا تموت الارادة في حدودها الجديدة، ومن الممكن أن يتضمن هذا النشاط والإدراك القدرة على العمل باستمرار لفضح التعميمات المتحيزة ذات النمط الثابت عن الرؤية والفكر على المثقف النقدي المجتمعي أن يتطرف في استقلاليته ويكوّن له رؤية اجتماعية واقعية راقية وقدرة عقلية قادرة على الدفاع المستميت لقضاياه العادلة ومنها قيامة العدل، لتحرير أبناء وطنه من الجوع، والأمية والجهل والتخلف وقيامة العلم والحرية.
في هذا الوطن الجريح على المثقف أن تلازمه هذه الأسئلة الثلاثة التي وضعها إيمانويل كانت، وهي تصلح أن تكون مقدمة لكل منطلق وبحث وفي أي ميدان:
ماذا يجب أن أعتقد؟
ماذا يجب أن أفعل؟
أين يجب أن أقف؟
إن نشاط المثقف المجتمعي والنقدي، هو النشاط الذي يسهم في قيام أنموذج جديد للإنسان أو على الأصح هو الذي يسهم في بناء وتنمية مجتمع أفضل للمستقبل.