الجنسانية والمعجزة

ثقافة 2020/11/23
...

 أ.د. عقيل مهدي يوسف

 
 
مسرحية: (فلك أسود)                                            
تأليف: علي عبد النبي الزيدي 
إخراج: د. رياض شهيدالباهلي
 
 من البدهي أن تتحدد المرأة ثقافيا، بسماتها الانثوية في طبيعتها وسلوكها وان تتمثل فيها خصلة الوفاء لزوجها،لكن المسرح العالمي عرف في تاريخ (الكوميديا) ضربا من الاثارة السارة للجمهور بما يشاهد امامه من خلط في لعبة الاقنعة التي يتحول فيها المظهر الانثوي الى رجولي كما حدث في مسرحية (بلاوتوس) في فترة رومانية – اغريقية متأثرة بما يسمى (بالكوميديا الحديثة)، وفي مسرحية (التوأمان)، وما يجره تشابه الاسماء بين الاخوين من ملابسات هزلية. 
وكذلك تأثر شكسبير مثلا في مسرحية (كما تحب) بهذا الضرب من الحبكات الدرامية حين تتقنع (روزالندا) بقناع شاب ومتنكرة باسم (جانمبد) لتحمي نفسها في المنفى ليتم لقاؤها مع حبيبها (اورلاندو) وربما نجد في الانسان الطيب (برخت) اضطرار المرأة هذه للعب دور الرجل لضرورات اجتماعية طبقية فضلا عما قدمه (ابو لينير) في (ثديا تيريزياس) إذ يتغير جسد (تيريز) فاقدة لثدييها دلالة على فقدانها
 لأنوثتها.
في «فلك أسود»  حوّل المخرج رياض شهيد وأفاد من تطلع المؤلف علي عبد النبي الزيدي الى التعامل مع (المرأة) من منظور مغاير في بعده الدرامي، الى بعد في فضاء العرض يقوم على علامات سينوغرافية واشكال بشرية متحولة موازية للنص ومتجادلة معه ما بين المدون المكتوب، والمرئي المتحرك، بصورة فنية خلاقة، ومؤثرة. 
فقد وظف مخرج العرض (بؤر) جاذبة في المنظر العام، باب - سرير – مرأة- مكعب يخص المرأة في العمق ينفث دخانا، ومن ثم يحيلنا الى مشاهدة معتقل وسجن وليس دارا حميمية للسكنى لزوج وزوجته من خلال ستارة أمامية ومتحركة تداهمنا منذ الاستهلال، ضربات ومحاولة اقتحام حرمة المنزل، من قبل الارهابيين وما يجعل المرأة تفز من نومها، في حين كان زوجها مستغرقاً في نومه وهي تتلو آيات قرآنية ومعوذات لتحميها من فعل (الاغتصاب) الذي يتهددها - هنا يتفجّر موقف المرأة تجاه الرجل الذي لم يأبه في نومه المستدام، لما يحصل من حرائق تهدد كيانه، وأمنه الشخصي ذاته وفي معالجة بصرية تظهر مجموعة من فتيات وفتيان بأداء حركات تعبيرية راقصة وباطار خارجي من مؤثرات رقمية تحيلنا الى البيئة التي تتضح معالمها البغدادية والعراقية بالتحديد في تكوينها العام وفي طرائق اخراجها وهندسة العرض بمعماره الجمالي الخاص.
 اذ اقترنت خبرة المخرج السينوغرافية، بما يدخره من خبرة عملية، ميدانية محفزة لتحريك ممثليه الزوج والزوجة والرجل المتحول تبعا لما أراده (المؤلف) من ان يحول كينونة المرأة الى كينونة رجولية بما يشبه (المعجزة) وهي تلتمس من الرب أن ينجيها من مطاردة الارهابيين صوناً لعرضها وحفظاً لشرفها من الدنس فتصبح رجلا بمشاعر أنثى..
 هذه المفارقة تجرنا الى احتدام متفجّر ما بين امتناع الرجل من هذه الغربة المستحيلة وهو يجد في داخل حرمة بيته كائناً غريباً يدعي أنه الزوجة !! وبطريقة انفصامية يجد الزوج بعد مكابدات بأنّها فعلاً زوجته التي انقلبت رجلاً حقيقياً وليس مجرد تنكر عابر! وتدلهم الاجواء المعتمة وصولا الى ذروة التأزم بينهما والزوجة التي باتت رجلا مظهراً وجوهراً تطلب من الزوج ان يطلب من السماء أن يتحول هو ايضاً الى زوجة وتصبح هي الزوج وهو الزوجة في تلاعب من الأدوار.
لعب دور الزوجة المتحولة (حسن هادي) ودور الزوج (ضياء سامي) والزوجة (صفا نجم) كان الاداء التمثيلي مقنعا في تحولاته على مستوى الفكرة وصياغة التعبير الجسدي الخارجي، وبمؤثرات تقنية اثرت العرض، وأغنته بفرضية من الاحتمالات المفتوحة على المستقبل تجاه هذه الجائحة الارهابية التي تطرق ابواب الناس الآمنين مثل هذه الحصيلة المتنافرة والمثيرة للتقزز في التحولات (الجنسانية) كما هو حاصل في الذوق العام السليم وقيم الاخلاقية الحميدة.
 استطاع المؤلف بحواراته الجامعة ما بين (المقدس) والبعد (الجندري  للمرأة والرجل) أن يجد مسوغاً احتمالياً لما سيحدث من مسخ لإنسانية البشر وتلويث لكرامتهم النقية وانحطاط لشرفهم
 المقدس.
واهتدى المخرج بدوره الى معالجة شكلانية بصرية بأسلوب تداولي عبر فيه الهوة، ما بين الوجوب الحياتي وضرورياته الراديكالية، وما بين الاحتمال الفني وتسويغه بتوظيف التخيل المسرحي ودلالته بتجسده وتجديده امام المتفرجين ومقاربة موضوع ملغز وملتبس وهو ضرب من المحال وجعله دعوة مقنعة وموجبة للتفكر والتأمل والحرص على السلام لا القتل والتدمير في زمن اجتاحته فيروسات الاجرام والتخلف ولغز (كورونا) المستفحل، والمتراجع، وظف العرض التمثيل المميز للممثلين الثلاثة (بينهم الممثلة) ومجموعة الرقص التعبيري والملاك التقني والرقمي والادارة المسرحية بشكل متجانس ومتعاضد فنياً بإسناد ورعاية كريمة من قبل
(فرقة الدولة).