أ.د. باقر محمد جعفرالكرباسي
الاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافاتهم وتاريخهم، أي أنه واقع معرفي مارسته أوروبا على الشرق، يقول المستشرق (جويدي): (إن الاستشراق بناء على الارتباط المتين بين التمدن الغربي والتمدن الشرقي)، ووصفه ادوارد سعيد في كتابه المهم (الاستشراق) بأنه: (أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه)،
ويقول الدكتور مشتاق بشير الغزالي في كتابه: (القرآن الكريم في دراسات المستشرقين) هو: (التخصص في دراسة الشرق سواء أكانت الدراسة تتعلق بعلوم المجتمع الشرقي أو بفنونه اوتراثه او تاريخه او ديانته او عاداته مع ضرورة توافر أداة الدراسة وهي اتقان اللغات الشرقية) ص23، ويسمى الدارس الغربي لتراث الشرق مستشرقا، ولاتتحقق هوية المستشرق المعرفيّة كما يرى (اربري):(مالم يكن متبحّراً في لغات الشرق وآدابه)، فالمستشرق هو الأكاديمي المتخصص الذي أتقن لغة شرقية ما او أكثر ودرس أحد علوم الشرق، عندئذ يمكن عده مستشرقا، والمستشرقون عند دراستهم لمعارف الشرق وعلومه قدموا جهدا بارزا فيها وخاصة في مجالات الدراسات القرآنية، فقد نشروا جملة من الكتب تحقيقا وفهرسة وتدوينا، في القراءة والتفسير وعلوم القرآن وقد جاءت هذه الذخائر محققة في اغلبها على الوجه الاكمل، مما يكشف لنا صدق المعاناة والصبر والجلد والأناة في إيصال النص للملتقي كما تركه مؤلفه وكما كتبه مصنفه، ولكن ليسوا كلهم هكذا إذ ان بعضهم اساء فعلا ولم يراعِ الأمانة
العلمية.
والكتاب الذي أقدمه للقارئ العزيز في هذه الحلقة عنوانه (اشكالية فهم النص القرآني عند المستشرقين) للباحث الأستاذ الدكتور عادل عباس النصراوي بطبعته الأولى /2016، بيروت.
يقول الباحث في مقدمة كتابه:(لقد شغلني ماكتبه المستشرقون حول القرآن الكريم والردود التي حاولت الحد من غلوائهم، لما فيها من تحامل كل طرف على الآخر، وقد خرج بعضهم عن لياقات البحث العلمي واصوله التي تأخذ بأيدي الباحثين إلى الطريق الصواب، فتماهت بين اسطرهم الحقيقة وغشيها ما غشيها، ولعل مرجع ذلك إلى طبيعة المنهج الذي استعمله المستشرقون في دراسة التراث الإسلامي الذي اعتمد على مفردات البيئة الغربية التي تختلف كثيرا عن مجريات المجتمع العربي خاصة والإسلامي عامة وطبيعتهما التي جرت وفق تعاليم الإسلام الحنيف) ص٩، ويضيف الدكتور النصراوي في المقدمة نفسها:(فيما كانت طبيعة المجتمع الغربي بعد عصر التنوير الذي انبثق من بين مفرداته وطروحاته طبقة المستشرقين، كانت طبقة تعادي الدين بسبب من تصرفات الكنيسة التي سيطرت على مقدرات الشعوب الغربية المسيحية بالخرافة والدجل وغيرها من الطرق الملتوية، فهاج الناس على تعاليمها ونبذوا فكرة الانتماء لها فتحول المجتمع الغربي إلى مجتمع لاديني في أغلب طبقاته ومكوناته العرقية واتجه إلى البحث عن فكر يستطيع أن ينقذ هذه الشعوب من تلك الأوهام التي سيطرت عليهم زمنا طويلا، فظهر المصلحون ليقودوا ثورة فكرية وعقدية واقتصادية شاملة تاركة وراءها الدين والكنيسة الا في بعض مواقع في أوروبا، في ظل هذه الظروف ولدت النهضة الأوربية وحملت مشعل التنوير إلى كل بقاعها)ص10.
التمهيد والفصول
دراسة النصراوي تألفت من تمهيد وثلاثة فصول، ومن ثم مصادر ومراجع مهمة اعتمدها في دراسته هذه، ففي التمهيد درس الباحث (الإشكالية وتداعيات فهم النص) فيقول:(لما كانت المشكلة تحمل في اصل تكوينها أسس حلها، لذا لابد من استعمال الطرائق الصحيحة والمنهج الذي يوصلنا إلى مفاتيح الحل داخلها، وذلك من خلال فهم النص) ص20، وفي الفصل الأول يتحدث الدكتور النصراوي عن:(أساسيات فهم النص القرآني ومصادر دراسته عند المستشرقين)، فيقول:(تعددت مشارب المستشرقين وطرقهم للولوج إلى دراسة النص القرآني والسنة النبوية المباركة، بتعدد ثقافاتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقدية والعلمية، فكل مؤسسة استشراقية بل كل مجموعة من مجاميع المؤسسة الاستشراقية الواحدة كان لها سبيلها في دراسة النص القرآني خاصة، فربما تختلف او تتباعد عن بعضها ولما كانت المؤسسات الاستشراقية لها أهدافها الخاصة بها، فقد عملت وفقها في الكشف عن المضامين الحضارية للنص المبارك) ص٤٧، ويرى الباحث أنّ ثمة مسالك اتبعها المستشرقون في فهم القرآن الكريم منها:عدم الاكتراث بأصالة التراث الإسلامي، ويشرحه في نقاط عدة: أولها المنهج المتبع في دراسة هذا التراث، وثانيها:الخلفية البيئية للمستشرقين بعد الحرب العالمية الأولى ومدى تأثرهم بالاتجاهات الجديدة التي نشأت في العلوم الاجتماعية، والاشكالية التي يضعها الباحث في اتباع المستشرقين في فهم القرآن الكريم هي:عدم اعتمادهم على المصادر الإسلامية القديمة، وكذلك الانتقائية في الروايات والمصادر وكذلك النزعة العقلية المجردة في محاكمة قضايا القرآن الكريم، أما المبحث الثاني من الفصل نفسه فقد خصصه الدكتور المؤلف لمصادر دراسة النص القرآني عند المستشرقين فيقول فيه:(لقد صب المستشرقون والباحثون الأوروبيون جل جهدهم على دراسة القرآن الكريم وما يتعلق به كعلوم القرآن والتفاسير، فضلا عن دراسة السنة النبوية الشريفة، وقاموا بدراسة هذه المفردات دراسة معمّقة، إذ انهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة الا واشبعوها دراسة وبحثا، بل قاموا بتحريك المسكوت عنه عبر عصور الإسلام، واتخذوا من ذلك وسيلة للولوج إلى التراث الإسلامي والعب فيه من خلال افتراضاتهم وسوء نياتهم، فبنوا عليها كثيرا من النتائج التي تشوه صورة الإسلام والقرآن الكريم)
ص79.
ويعطي الباحث عنوانا للفصل الثاني هو (محتوى النص القرآني في فهم المستشرقين)، ويبحث فيه محتوى النص القرآني من حيث النقاط الآتية: القصص القرآني وأحكام القرآن الكريم في فهم المستشرقين وأثر التوراة والإنجيل والوثنية في أحكام القرآن في فهم المستشرقين، اما الفصل الثالث من دراسته فيوضح الدكتور النصراوي فيه (لغة القرآن في فهم المستشرقين)، ويحدد اوهام المستشرقين في لغة القرآن الكريم ومن ثم يشرح الادلة على عروبة ألفاظ القرآن الكريم المستوحاة منه، وكذلك الادلة على عروبة ألفاظ القرآن الكريم من اللغة العربية.