كتّاب حقيقيون.. كتّاب افتراضيون

ثقافة 2020/11/24
...

البصرة: صفاء ذياب
منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى سنوات قليلة مضت، كان هناك أدبان يفصلان الأدب العراقي، أدب الداخل وأدب الخارج، هذان الأدبان اللذان بدأ الصراع بينهما حدَّ التخوين في الموضوعات والأساليب والبحث عن التجديد. غير أن هذا الصراع بدأ بالخفوت بعد سنوات من سقوط النظام السابق، حينما تبادل أدباء الداخل وأدباء الخارج أماكنهما، فالبعض من أدباء الخارج عاد للوطن، والبعض من أدباء الداخل غادر الوطن، وهكذا انقلبت المعادلة بينهما، 
حتى حلّ الصمت، ولم يعد هذا الصراع موجوداً بعد انفتاح أدباء الخارج على العالم وبدؤوا يصدرون كتبهم في أي مكان يرغبون في النشر فيه. الأمر نفسه مع أدباء الخارج حينما عادوا بكتاباتهم من الخارج إلى الداخل.
هؤلاء الأدباء- الداخل والخارج- لم يعد لهما وجود، وأصبح هناك أدب واحد وهو الأدب العراقي، غير أن الثنائية لم تتوقف عندهما، بل انبثق صراع آخر جديد على أدبنا، وهو أدب الكتاب وأدب شبكات التواصل الاجتماعي، فانقلبت المفاهيم بشكل كامل بين من يرى في نفسه أديباً حقيقياً يرسم معالم نصّه، بناءً على مرجعيات ثقافية وفكرية، وبين نص آخر كانت منشورات الفيسبوك والانستغرام هي المرجع الرئيس فيه، حتى بدأ يظهر للعيان أدبان جديدان يمكن أن نسميهما: الأدب الحقيقي والأدب الافتراضي.
 
الحياة بعيداً
تغيرت مقاييس الكثير من دور النشر بعد سنوات من انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي، فبعض الدور المعروفة الآن، كانت تضع مقياساً جديداً للموافقة على طباعة كتاب ما، وهو عدد اللايكات والتعليقات، التي يحصل عليها المؤلف على صفحته في الفيسبوك، وهو ما حدث بالفعل مع كتّاب يطبعون للمرة الأولى، فنجح الأمر معهم في كتاب أو كتابين، غير أن هذه الدار أصيبت بخيبة أمل مع كتب أخرى، ليكتشفوا أن الحياة الافتراضية شيء والعلاقات الخاصة شيء آخر، حتى أن هذه الدور بدأت بتغيير ستراتيجياتها في الموافقة على طباعة كتاب من دون غيره، اعتماداً على مبيعات هذا الكاتب أو ذاك.
من جهة أخرى، نفدت أكثر من طبعة لكتاب واحد حتى وإن صدرت عن دار غير معروفة، لنشاطات المؤلفين على هذه المواقع، فأحد الكتّاب، بعد أن كان ينشر بوستات بسيطة على الفيسبوك، فكّر بجمع هذه البوستات في كتاب على شكل قصص، ولعلاقاته الكثيرة ومنشوراته، نفد الكتاب وأعيدت طباعته أكثر من مرّة، فلم يكن منه إلا أن يصدر كتاباً ثانياً وثالثاً، ليصبح أحد الكتاب المشهورين، من دون أن ينتج نصاً واحداً
 مكتملاً.
 
ما الذي نفعله؟
وفي سؤالنا عن الفارق بين الكاتب الحقيقي والكاتب الافتراضي، يحيل الشاعر عبود الجابري هذا السؤال إلى فكرة كارثية مطلقة تعرّف الكاتب الافتراضي، على أنّه من يقدّم الأفكار وينتظر رأي القارئ فيها، أمّا الكاتب الحقيقي فهو من يتبنّى الفكرة في منتجه الإبداعي وينفق حياته في الدفاع عنها، وذلك حسب رأي الجابري جوهر الإبداع: أن تكتب ما تؤمن به.
لكن ما يراه الجابري ممكن أن يُردَّ، فربّما هؤلاء يؤمنون بما يكتبونه أم ينشرونه، لأن هذه ثقافتهم ومرجعياتهم، فما تغيّر في الحياة اليومية خلال العقود الماضية، وما قدّمته دور النشر العربية، حتى على مستوى الدور الكبرى من كتب عرفت تحت تجنيس (تنمية بشرية)، خلخل مفاهيم الكتابة والقراءة معاً، فهذه الكتب هي الأكثر طلباً في المكتبات عموماً، جعلت من هذه الكتب في الصف الأول بعالم القراءة، ومن ثمَّ أنتجت أجيالاً جديدة لا تعبأ بما هو معرفي أو يمكن أن يغيّر من عقلية
 القارئ.
غير أن الشاعر والناقد السينمائي عباس الحسيني، يشير إلى أن الكاتب الحقيقي بلاغي بفطرته اللغوية، لمّاح وذو نسق دلالي بلاغي جلي المعالم، يمكن التلذّذ بمادته وفهمها، وهو نقيض الكاتب الافتراضي الهامشي والفقير البنية، والمنقطع دلالياً والعاجز عن الإبداع والإيصال. الحقيقي متجاوز والافتراضي ما برح يحبو إلى لا الهداية.
هذا النسق البلاغي الذي يتحدّث عنه الحسيني يبنى من خلال مجموعة من المعارف والقراءات التي لا تتوقف، ومن جانب آخر، فإن أغلب الكتّاب الافتراضيين بعيدون عن اللغة وحيثياتها، فأغلب ما يكتبونه يكون خالياً من علامات الترقيم أو التشكيل اللغوي، فضلاً عن ذلك، يلاحظ أن هؤلاء لا يفرقون بين التاء المدورة والهاء، هذه ملاحظات أولية بعيداً عن البناء والفكرة وكيفية إنتاجهما.
وتعتقد الشاعرة والمترجمة مريم العطار إلى أن الأمر عائد لنوعية الكتابة التي يقدّمها المرء، ورغبته في الولوج إلى داخل الأشياء واتصاله بمن حوله وبالطبيعة وبالمجتمع، لهذا ترى أن على الكاتب أن يعاصر جيله ويعرف همومه ومخاوفه وأحيانا يتنبَّأ بمستقبل، وأن يكتب بالعناصر المادية التي تجعله حيّاً في النص وصادقاً، وألا ينسى عالم الماورائيات.
ويتساءل عن الوجود، والبيئة والزمان والسبب والاحتمال، حينها يصبح الكاتب مرآةً لذاته وللآخرين ويتجرّد من التعصّب ويعرّي القبح يكون حقيقياً أمام ذاته أولاً، ومن ثمَّ تصل كلمته سواءً في العالم الواقعي أو في
 الافتراضي.
ما تفترضه العطّار ربّما لا يملكه الكثير من الكتّاب المعروفين، لكنها تريد أن يصل الكاتب إلى مرحلة من الوعي تجعله قادراً على تغيير العالم، وهو أمر يتمنّاه كل قارئ، غير أن الواقع يفرض نفسه بوجود كتّاب [حقيقيون] لا يختلفون كثيراً عن الكتّاب الافتراضيين.
إلا أن هناك اسئلة كثيرة تسعى لفهم الفارق بين هذين العالمين: الكتابة برجعيات ثقافية ووعي والكتابة من خلال بوستات لا يعني شيئاً إلا لحظة كتابتها، ويبدو أن تداخل العالمين وصل حدّاً أدّى إلى تشتت القارئ، وضياع بوصلته التي حاول كتّاب كبار ضبطها على مدى قرون
 طويلة. 
هذه البوصلة التي يبين الشاعر والمترجم رعد زامل أنها تخلخلت، بسبب الإقبال الشعبوي الكبير للانتشار، فأصبح الاهتمام قليلاً بالكاتب الافتراضي، فضلاً عن أنَّ محرك البحث بشبكة التواصل يفضح الكثير من الكتّاب الافتراضيين، لذلك يبقى الكاتب الحقيقي أكثر رصانة واعتباراً، وإن كان بعيداً عن دائرة الإعلام
 والتسويق.
فكتاب مثل (زحمة حكي) الذي هو عبارة عن جمع لبوستات الإذاعي الكويتي علي نجم، تجاوزت طبعاته أكثر من 60 طبعة خلال ثلاث سنوات فقط، وفي المقابل نرى أن أعمالا عظيمة مثل روايات فؤاد التكرلي أو محمد خضير، لا تتجاوز طبعتين أو ثلاثا في أفضل الأحوال، وهذا بسبب نشاط علي نجم على التويتر وعدد متابعيه الذي يتجاوز الملايين. 
غير أن كتاب علي نجم الثاني (جاري الكتابة) الذي يحمل خطأ نحوياً واضحاً في العنوان [الأصح جارٍ الكتابة] لم يحقق المبيعات نفسها التي حققها (زحمة حكي)، فبدأ الجمهور بالانحسار شيئاً
 فشياً.
وهذا ما يقوله الشاعر حسين المخزومي، مشيراً إلى أن الكتاب الطارئ لا يستطيع أن يعوم طويلاً في هذا البحر الأزرق الافتراضي وينجو بقارب مثقوب صوب عالم الأدب الحقيقي، وإن ملأ نصوصه بفلّين «اللايكات» ، سيغرق بعد حين ولا يبقى حتى زبد ما كتب.. هذا مصير القوارب
 المثقوبة.
غير أننا الآن نواجه أخطاراً أكبر، فهؤلاء الافتراضيون بدؤوا بتصديق أن ما يكتبونه هو الأدب الحقيقي، وأي كتابات أخرى لا تتواصل مع الواقع الذي يعيشونه، بل هي كتابات جمالية لا تهم أي شاب، حتى وإن كان يبحث عن تغيير حياته من خلال القراءة.
وفي الوقت نفسه، هناك جيل جديد من الشباب لا يعبأ بهذه الكتابات الافتراضية، بل أخذ يبحث عن كتب الفلسفة، والأعمال الأدبية المهمة، وهو ما يترك لدينا بارقة أمل بجيل مقبل.