علي وجيه
سأفترضُ أنّ بداخل كلّ منّا جزءاً يتمنى أن نفقد الذاكرة، لرغبة كوميديّة فانتازيّة، أو سعياً لوجود الطمأنينة بعد زوال الذكريات السيئة، أو بالأقل: تمنّي “مَنتجة” الذاكرة وحذف السيئ منها، مرّةً شاهدتُ فيلماً، ينقلُ بطلَهُ معلوماتٍ سريّة في دماغه، كما الكومبيوتر، وحين سأله الناقل عن السِعة التي يجب أن تتوفر، قال: احذفْ ذكريات الطفولة. الحال يتكرر في مسلسل “الرجل الآخر” لنور الشريف، أو عشرات الآثار
الأخرى.
لكننا نتحدث هنا عن إيكو، الروائيّ والأكاديميّ، والقارئ، الذي ظلّت الصفة الأخيرة تطغى أحياناً حتى على كونِهِ كاتباً، فمكتبته العملاقة (ثلاثون ألف كتاب) التي تمتدّ على غالبية المنزل، هي كانت الجزء الذي يُكمِلُ ملامح شخصيّته، حتى أزعج كتّاباً كثيرين رؤوا أنّه يستعرض عضلاته بـ”معرفة كلّ شيء”، كما سخر منه ذات مرّة دولوز.
لكن روايته الأخيرة (الشُعلة الخفيّة للملكة لوانا) الصادرة عن (الكتاب الجديد، بترجمة معاوية عبد المجيد)، لم تكن استعراضاً للعضلات، الأمر مختلفٌ عن (اسم الوردة) مثلاً، أو (جزيرة اليوم السابق)، ليس ثمّة معمارٌ كبيرٌ للحكاية، ولا الحديث عن أشياء لا يعرفها سوى إيكو ومكتبته، هل كتبَ سيرتَهُ الذاتية بطريقة
مواربة؟
الأمر ببساطة هو بائعُ كتبٍ نادرة، يفقدُ ذاكرته، وكلّ ما يتعلق بها، من أسرة وتاريخ شخصيّ، ولا يتبقى بذهنه سوى ما يتعلق بالكتب، والكتّاب، والأرفف التي تحتوي على المجلدات
النادرة.
سُلوان شخصيّ، أن يحتفظَ بخير العالم فحسب، وعن الحياة المُصفّاة من الكدر، وهي تشعل التناصات وتُطلقها يميناً وشمالاً، فالفصل الأول لا يجيب البطل الكتبيّ إلاّ بعبارات الآخرين، ثم تدخلُ الصورة، ضمن متن الرواية، حيث كانت هذه الصور من إرشيف إيكو
نفسه.
لم تقترن صفة “القارئ” بكاتبٍ أكثر ممّا اقترنت بإيكو وبورخيس، الفرق أن بورخيس تحضر معه المكتبة العامة، المُشاعة، أمّا إيكو فكانت مكتبته الشخصيّة هي ما يحضر معه، العالم الكامل الذي يصنعه الشخص بنفسه، ومهما كان يُنجز إيكو، على الصعيد السردي أو الأكاديميّ، كان يحضر بوصفه “قارئاً”، والأمرُ – للمفارقة –
لا يزعجه!
“لو أن الذاكرة تُمحى، ولا يبقى منها سوى الكتب”، هكذا ستمنّي نفسك، بمصيرٍ مذهل كمصير آرثر بريم، البطل المحظوظ في آخر رواية لإيكو قبل
وفاته!