يريفان والاتفاق التركي - الروسي

آراء 2020/11/24
...

 د. علي العبادي 

حققت روسيا (وتركيا بجزء اصغر) في ليلة 9-10 تشرين الثاني انتصارا عظيماً، بعد التوصل الى الاتفاق في ناغورنو قاراباغ، ولكن في المقابل كان ذلك الاتفاق يعد خسارة للجانب الارمني والاذري كذلك! الى هذه اللحظة لا احد يعرف التفاصيل، ولكن وكما تناقلت العديد من المصادر الاعلامية، بأن روسيا الاتحادية قد ارسلت الى اقليم ناغورنو قاراباغ 2000 جندي من جيشها. 

وُقع هذا التفاهم من قبل نيكول باشينيان وإلهام الييف وفلاديمير بوتين، بعد سلسلة من الاحداث الدراماتيكية ودوامات جارفة من الاخبار والتثقيف العلامي الزائف، والذي كان يرمي الى الحفر تحت باشينيان وبناء اساس قوي لتغيير السلطة في يريفان، وهذا يعد المفتاح لفهم الاحداث المتتابعة.
في السابع من الشهر الجاري وبصورة مفاجئة تم اجلاء السكان في قرية ستيبيناكرتو، حيث اقتيدوا في الطرق الجبلية الوعرة، وهذا احد اهم الاسباب التي تؤكد القرار المفاجئ في الاجلاء المتمثل بالاتفاق اعلاه. 
في الحقيقة، اشتد القصف الاذري على الخطوط الامامية للجبهة في بداية شهر تشرين الثاني الجاري، ولكن وبالرغم من ذلك لم يصل الوضع بالارمن الى اعلان خسارتهم للحرب واشهار رايات الاستلام، إذ لم تتقدم القوات الاذرية بشكل كبير، إلا في مدينة هاردوت، حيث سيطر الاذريون على مناطق الوادي غير المأهولة بالسكان، والتي تقع على حدود ناغورنو قاراباغ قبل عام 1991، ومن هنا ادعوا توغلهم بين مدينة هاردوت وشوي.
من الجدير بالذكر الالتفات الى مصطلح "الجانب الارمني" والمقصود به هنا جيش دفاع جهورية ارتساخ وليست ارمينيا، حيث لم تدخل ارمينيا بإمكانياتها العسكرية بصورة رسمية في هذا النزاع المسلح، وهذا ما هيّج الانتقادات اللاذعة من قبل الشارع الارمني، وخصوصاً من قبل بعض الخبراء الامنيين (من ذوي الميول الروسية) بأن ارمينيا كان يستوجب عليها قصف مدينة غانجا الاذرية وشبكة الانابيب الخارجة من اذربيجان عبر جورجيا ووصولا الى تركيا، واقترحوا بأن باشينيان لا يفعل ذلك بضغط من اوروبا، التي في المقابل لا تقدم لارمينيا اية مساعدات تذكر. 
كان من المؤكد ان تكلفة مشاركة ارمينيا رسمياً في هذا النزاع المسلح، هي نقل هذه المعارك الى عمقها الجغرافي وهذا ما يفسح المجال لتركيا في التدخل العسكري في قصف ارمينيا، ولكن ومن جهة اخرى بان ذلك سيدفع الجانب الروسي الى رد تنظيم هجمات مضادة حماية لارمينيا نظرا للتحالفات العسكرية المبرمة بين الطرفين.
خريطة تقسيم مناطق النفوذ
بالرغم من قلة المعلومات الخاصة بناقلات السلاح الروسية التي دخلت الى ارمينيا ومنها الى جمهورية ارتساخ، لا يوجد اي دليل قطعي يشير الى وصول هذه الامدادات، ويعود ذلك الى التحليل المنطقي في استفادة روسيا الاتحادية من تفاقم المشاكل في هذه المنطقة، وهذا ما سيدفع ارمينيا الى طلب التواجد العسكري الروسي رسمياً على اراضيها وهذا ما تتشوق اليه روسيا، حينها ستتأكد روسيا من فرض سيطرتها، التي بدت تفلت تدريجياً من يديها. 
بعد ثورة عام 2018 في ارمينيا، كانت السلطة بيد باشينيان، الذي شرع بمحاولات تنويع سياسته الخارجية بعناية كبيرة من خلال تكثيف التعاون مع اروبا، اضافة الى فوز جو بايدن في الانتخابات الاميركية ومعاونته كامالا هاريس المتربطة بعلاقات وثيقة مع الجالية الارمنية، قد يعني لروسيا تهديداً اخراً محدق في إضعاف نفوذها في ارمين يا، المتمثلة بتوغل هيمنة النفوذ الغربية على اراضي جنوب القوقاز، ولكن والتوافق مع التوغل التركي في ذات المنطقة، يعني لروسيا شر صغير لابد منه ويمكن السيطرة عليه من خلال توزيع مناطق النفوذ في المنطقة بين الروس 
والاتراك. 
في التاسع من الشهر الجاري وبعد يومين من الاجلاء المشكوك به في قرية ستيباناكرت، ومحاصرة رئيس ارتساخ، كل ذلك اوحى الى فقدان جمهورية إرتساخ السيطرة على مدينة شوشي، إذ اعلن هذه المعلومة باشينيان، وهناك ادلة كثيرة عن الكذب في هذه المعلومات ما ادى الى ارتفاع الاصوات المعارضة في يريفان، حيث وركزت التوقعات، بأن في تلك الليلة سيتم اقصاء باشينيان من قبل القوى السياسية المعارضة ذات الميول الروسي، التي وجهت الاتهامات له بالخسارة ومطالبته بالتنحي عن الكرسي، تركز منطق اساس هذه الاتهامات، على توجهات باشينيان على سياسيته المائلة الى الكفة الغربية، والتي ادت بدورها الى تراجع تعاونه مع الجانب الروسي، وهذا ما انعكس فعلاً على فقدان ارمينيا للدعم الروسي امام الهجمات الاذرية- التركية، وذلك لإثبات الارادة الروسية، بأن ارمينيا مسلوبة القوى، من دون الدعم الروسي، وان اي انفراد في سياستها سيؤدي الى تراجع الوضع الامني 
بها.
تجدر الاشارة الى حقيقة، ان الييف وتركيا لم يكونا مستعدين للدخول في مواجهة مع القوات المسلحة الروسية، لذا فإن تهديد التدخل الروسي اجبر باكو وانقرة على قبول الشروط الروسية، والتي لا تعد بالنسبة لتركيا واذربيجان مستحيلة التنفيذ، إذ ان قبول تركيا يعني وصولها الى دمج منطقة جنوب القوقاز الى منظمة منطقة العبور التركية- الروسية ومن الصعب الاستبعاد (خصوصا اننا لا نعرف تفاصيل الاتفاق) ان تظهر في المستقبل دوريات عسكرية تركية- روسية في ناغورنو قاراباغ. وبهذا الصدد، فان اعظم انجاز لتركيا يتمثل ببسط سيطرتها التامة على اذربيجان، وان روسيا الاتحادية تصبح في المقابل اللاعب الرئيس في المنطقة، وهذا يعني في الحصيلة تقسيم النفوذ بين طرفين رئيسين وهما تركيا وروسيا، اللتان ستحاربان محاولات التدخل من قبل اي طرف ثالث. 
علاوة الى ما ذكر، تبقى العديد من الاسئلة قائمة، فحسب المعلومات الواردة عن الاتفاق، لم ينتج عنه تأكيد عودة الادارة الاذرية الى ناغورنو قاراباغ، ولكن من المعلوم ان بقية المناطق تقع حالياً تحت السيطرة الروسية في واقع الحال. واما عن السيطرة الاذرية فستُسترجع الاراضي المسيطر عليها من قبل جمهورية ارتساخ، وهي المناطق التي كانت قبل عام 1991 لم تتبع الى ناغورنو قاراباغ وهنا يُطرح السؤال الآتي: هل ستكون نسبة من السيطرة الاذرية على ناغورنو قاراباغ؟ واذا كان الجواب بنعم، فما هي ملامح الدور الروسي من هذا الموقف؟ الزمن كفيل بالاجابة، ولكن من المؤكد بأن روسيا لن تعطِي الكثير للاذريين، لأن في خلاف ذلك، لن يعود الارمن الى ارتساخ، وبهذا ستخسر روسيا نفوذها في ارمينيا، وهذا ما تتسابق به القوة الغربية بان الروس قد خذلوا الارمن، وهذا ما يُسمع اصداؤه حالياً في يريفان بالمطالبات في الاستمرار في المعارك ورفض اتفاق ايقاف اطلاق 
النار.