أحمد رافع
لم يكن لسيلفيا بلاث محاولة للتخلص من الموت الذي عدته في شكله الشعري فن يوازي قدراتها الشخصية، وكان لداعي استثمار مفردة الموت في لغتها أمراً يشي عن أنها كانت تعد لعملية انتحار استثنائية، فالشكل الشعري الذي سارت عليه يحمل حياة مقلقة بوتيرة الحرمان يدفع ذاتها المشعرة إلى الميول نحو ما هو موجود في الموت لكن بطريقة لائقة! ومرد ذلك أن علاقتها مع زوجها الشاعر تيد هيوز، لم تكن مستقرة تمتاز بعلاقة الحب المكره خصوصا أن هيوز كان نموذجا حقيقيا للذكورية بينما هي مثالا للحركة النسوية آنذاك، لتنتج هذه المفارقة في تهميشها وانعتاق حياتها تحت الظلم المستمر.
لقد وظفت بلاث القصيدة بطريقة عبقرية تتدفق في تيارها الشعري مشكلات اجتماعية واتخذت من النص ملتجأ لتفريغ صراعات واقع فرض حياة تستحيل أن تبتسم لبرهة. فكان نتاجها كثيفا يسمو في مرحلة الموت الخطر من البحث والتوحد والقلق النفسي، الذي ظل مزامنا في قصيدتها وتفاقم مشكلاتها، ابتداء بذاكرة الطفولة وفقدها لوالدها وصراعها ضد الموت واشتعال توتر العلاقة مع هيوز، كل هذا جعلها تحوك جملتها الشعرية بخيوط القلق والانعزال.
برزت كشاعرة مهمة فيما يعرف بالشعر الاعترافي بعد تأثرها بروبرت لويل في كتابهِ (دراسات حياتية)، الذي يعد باكورة الشعر الاعترافي آنذاك، إذ فسح روبرت المجال أمامها ليكون النافذة الحقيقية في خلق أجواء جديدة للنص، وأتاح لها فضح اسرارها من دون أي قناع يغطي وجهها في القصيدة عبر سيرتها الخاصة، كأداة اساسية للتعامل مع الشعر الاعترافي الذي شاع في تركيزه في خمسينيات القرن الماضي، ولذا فهو تعد من الرواد الحقيقيين للقصيدة التي تعترف بالتجارب الشخصية والأمراض العصبية والنفسية والحيوات الجنسية وتجربة الانتحار، وقد مثله في ذلك الشاعرة آن ساكستون وألن جنسبرج وجون بيريمان.
النمط الشعري هذا يصفه النقاد “ شعر ما بعد الحداثة “ إذ يرتبط بالتجارب الشخصية للشاعر والمتعلقة بالموت والحرمان والتهميش وما يؤول اليه من صراعات نفسية، وقد يأتي على شكل سيرة ذاتية كما وصف روبرت لويل في كتابه سيرته وكل ما يحيط به من متعلقات شخصية، وكذا الحال مع آن ساكستون التي استخدمت سيرتها الذاتية للتعامل مع هذا النمط الشعري عبر التلميح لأزمات نفسية انتهت بالانتحار.
لكن الشاعر هنا يحافظ على هيكلية النص الشعري وسريان تدفقه وعدم الولوج إلى ما هو يستخدم من لغة في السيرة الذاتية بشكلها الطبيعي، إذ يفضح سيرته بشعرية أفق خيالي يحيل مشكلة وجوده نافذة من القصائد، هو يستثمر حطامه، من دون أن يكون خلف شعريته هذه أوجه تحتمل ألوانا عدة، فاللون تابع لشخصية الشاعر نفسه ولا يتنكر تحت أي عباءة، وهذا ما يدعو ليكون بعيدا عن الخجل، واعتماده على اللامبالاة تجاه تجاربه الخاسرة.
خسارات بلاث كانت أداة فاعلة لانبثاق النص الشعري بلغة تتناغم مع موت حياتها، التي لا تتحرك، خاصة أنها كانت تدعو لحركة نسوية بأفكار مغايرة عن غيرها التقليدية المطالبة بالمساواة بين الجنسين وتفعيل دور المرأة، تلك الحركة جابهت بالرفض من قبل زوجها هيوز، الأمر الذي أدى إلى تفاقم المشكلات وتضارب الأفكار واتلاف جزء من يومياتها الأخيرة المتعلقة بالانتحار، لكنها لم تهد حتى تحولت فيما بعد لحركة أدبية وفنية أخذت حيزها ومكانتها وجذبت النقاد بحثاً عنها،بينما تركته في مجالات أدبية مختلفة.
بلاث التي أحببت طريقة تعاملها مع الموت سرعان ما حققت جملتها “ الموت فن ككل شيء آخر، وهو فن أتقنه بشكل استثنائي”.بهذه المعاني دفعت أجواء القصيدة إلى انتحار، كان مخزونا بعملية معدة مسبقا، ففلسفة الموت لديها نقلة نوعية ومعاكسة لمرآة الحياة، إذ تهشم ما بداخلها من أزمات وتستعيد شريط الطفولة المر، لتنتهي بوضع فني خاص بعملية موتها، خاصة أن لبلاث “أكثر من طريقة لائقة للغرق”، لكنها فضلت هذه النوعية مع الانتحار، كي تستنشق الموت بهدوء وبلطف حينما أعدت الموت فنا تجيد التعامل معه.
فأدخلت رأسها في فرن شقتها في بريمورث هيل بلندن وحصنت بمناشف مبللة ما بين الأبواب منعا لأطفالها من الدخول إليها، لتموت منتحرة باستنشاق الغاز السام (أحادي أكسيد الكاربون) بعد معاناة طويلة من اكتئاب فشل طبيبها هوردر في اقناعها مراراً بتلقي العلاج.