الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويك

آراء 2020/11/25
...

 احمد عباس الذهبي*

 
 
لطالما عزّينا أنفسنا عند كل منعطف صعب في حياتنا بأنه لن تفوح رائحة الكعك الزّكيّة حتّى تمسّها حرارة النار وكذلك أحلامنا وآمالنا لن تنضج حتى تمسّها قسوة التجارب.
وظروف الحياة التي نواجهها تجعل من أمانينا قطوفًا غير دانية، بل تأبى إلا أن تجعلها لؤلؤة في قاع بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج.
 فنتعرّض ونحن نستخرج هذا اللؤلؤ لصدمات تشدنا إلى الوراء. وتجعل الألم يتمكن منا ويتغلب علينا، فيسرق أوقاتنا وتفكيرنا. ويمنعنا عن إنجازاتنا ويمتص طاقتنا الإيجابية، ويقتل تفاؤلنا ويشوه نظرتنا تجاه الحياة. 
ففي داخل كل إنسان مخزون من الطاقة الإيجابية ينخفض أحيانًا. ويختفي نهائيًا أحيانًا أخرى، ولكن بقدرة وحكمة من الله رُزقنا نعمة النسيان، فمع النسيان لن تشغل بالك بالمشكلات، بل ستركز على الحلول، ولن تطيل تفكيرك بالفشل، بل ستسعى للنجاح، ولن تضيع وقتك بالحزن، بل ستبحث عن أية وسيلة للفرح، وستعلم أن الحياة مد وجزر، تعطيك أحيانًا سعادة تجعلك تطير في السماء، وتعطيك أحيانًا ضربات تهوي بك إلى القاع، ومن واجبك أن تُسلّح نفسك بالهمة والإرادة وتدعو الله بأن يمدّك بالقوة والشجاعة لتقود الدفة.
وفي علم النفس هناك ما يُعرَف باسم“Post traumatic growth ومعناها: تطور ما بعد المعاناة.
إذ يقول العلماء إن البشر حين يتعرضون إلى كوارث أوآلام شديدة، تكون لديهم ردّات فعل مختلفة تتعلق غالبًا بشخصيّتهم: فمنهم مَنْ تُدمّره المحنة، فيتحول إلى حطام إنسان فاشل يائس، ومنهم من يتعافى من محنته بمساعدة الآخرين، ويعود إلى حياته الطبيعية، ومنهم من تجعله المحنة أكثر حكمة وإبداعًا ونجاحًا، وهذا ما يحدث لكثير من العظماء والمبدعين.
أصيب بيتهوفن بالصمم فألَّف سيمفونياته الشهيرة، ولو لم يتجرع ديستوفسكي وتولستوي وتشارلز ديكنز التعاسة في حياتهم لما كتبوا روائعهم الأدبية الخالدة، وهذا يلتقي مع قول ابن خلدون: الأوقات الصعبة تصنع رجالاً أقوياء، الرجال الأقوياء يصنعون أوقات الرخاء، أوقات الرخاء تصنع رجالاً ضعفاء، الرجال الضعفاء يصنعون أوقاتًا صعبة.
 
فالله لا يعجزه أن يخلقنا مرفّهين في الحياة، نمتلك أسباب العيش والسعادة، ولكن إذا حدث هذا كنا سنفقد القدرة تمامًا على إعمار هذا الكون.
 ولنتأمل حولنا أحوال كثير من الناس، سنجد أن الناجحين في هذه الحياة في أغلب الأحوال هم من واجهوا صعوبات جمة في حياتهم، وبقدر هذه الصعوبات بقدر ما كانت لديهم رغبة شديدة وحافز قوي على التخلص من هذه الصعوبات، فكتب الله لهم النجاح، بينما هناك الكثيرون ممن نشؤوا في بيئة مرفّهة وعيّنوا من ينوب عنهم في التعامل مع الصعوبات، هؤلاء تجدهم كسالى، يقفون مكانهم ولا يتحركون، لا يملكون أهدافًا يسعون إلى تحقيقها، لا يعانون من أوضاع صعبة تحفّزهم على إحداث التغيير!
وما أكثر الشدائد والأزمات التي ابْتُلِي بها الرعيل الأوّل من أبناء الإسلام، فقد كان فيهم من لا يجد طعامًا يشبع جوعه وكان فيهم المحروم الذي يقف في ميدان القتال شامخًا وهو طاو من شدة الجوع، لأنّهم أدركوا بحسهم الإيماني أنّ الشدائد مع الصبر تصنع الرجال وتبني الأُمم وأنّ الضعف في مواجهة الأزمات لا يصنع شعبًا ولا يبني حضارة ولا يقيم أمة.
وفي الامتحان يُكرم المرء أو يُهان"، لأن الشدائد مصنع الرجال وكما يقول فولتير "يولد الرجال متساوين مهما اختلف تاريخ ميلادهم لكن الفضائل تصنع الفروق في ما بينهم.
بعد كل مِحْنةٍ مِنْحة، وبعد كلِّ شِدَةٍ شَدَّة، وبعد كلِّ ضيقٍ فرَج، وبعد كل بليَّةٍ عطيَّة، وإن مع العُسر يُسرًا.
والشدة إذا تتابعت انفرجت وإذا توالت تَولّت، وكما قال الشاعر: 
ولَرُبَّ نازلةٍ يضيق بها الفتى  ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجَت وكنتُ أظنها لا تُفرجُ
 
 * استاذ علم النفس جامعة بغداد