التوقيع كهويَّة.. مارادونا مثالاً

ثقافة 2020/11/28
...

عبدالزهرة زكي
 
مع رحيل النجم الكروي الأبرز في العالم، دييغو ما رادونا، تستعيد (ثقافية الصباح) بعدد اليوم المقال الذي كان قد نشره هنا قبل أشهر قليلة الزميل الشاعر عبدالزهرة زكي.
قبل كتابة هذا المقال كنت أشاهد، عبر إحدى القنوات الفضائية، مباراة بكرة القدم في نهائيات كأس العالم تعود للعام 1986. إنها مباراة الأرجنتين وانكلترا في بطولة العالم بالمكسيك، وكانت مباراة دخلت التاريخ الكروي. كان دخولها التاريخ من خلال رجل واحد من بين اللاعبين الاثنين والعشرين الحاضرين في الساحة وكان ذلك هو مارادونا. 
لقد حصل هذا من خلال هدفيه اللذين حفظهما التاريخ، فقد كان ثعلباً ماهراً برشاقة اختطافه الكرة بكفّه وتسجيله هدفاً ظل كثيرون يقلدونه فيه فيخفقون معظم الأحيان، فيما نجح ماردونا بعد هدف الحيلة الماكرة باختطاف هدف آخر بعد مراوغته لخمسة لاعبين من المنتخب الانكليزي ثم الحارس الأمهر بيتر شيلتون، اعتبر هذا الهدف باستفتاء للفيفا على أنه أعظم هدف في تاريخ كرة القدم..
وقبل هذه المشاهدة كنت قد احتفظت، من خلال النت، بتواقيع عدد من المشاهير بمختلف التخصصات، من السياسة والأدب والفن والرياضة، كان من بينها توقيع ماردونا. كنت أفكر بالتمعّن والكتابة في هذه التواقيع وصلتها بطبائع أصحابها، هكذا عدت وبدأت بتوقيع ماردونا من بين تلك التواقيع.
***
يبدو توقيع النجم الكروي دييغو مارادونا مصنوعاً أكثر مما هو عفوي.
في التواقيع صناعة ما، يحصل هذا في تواقيع بعض المشاهير، وحتى في تواقيع بعض  من الناس العاديين.
يراد للتوقيع أن يخلّف أثراً في وجدان الناظر إليه، فيما يخلّف الدافع الصناعي بعضاً من آثاره على التوقيع، إنها آثار الصنعة، آثار الفن في التوقيع.
الرغبة بالتميّز هي ما تدفع لأن تنجبَ الصنعةُ أثراً في التوقيع، لكن بعضاً من الطبائع والاهتمامات والمزايا الشخصية تظل أقوى أثراً من صنعة الفن في التوقيع، هكذا تظهر مزايا الشخصية وطبائعها من حيث يدري الموقِّع أو لا يدري.
توقيع مارادونا، النجم الكروي الأشهر، يأخذ شكل حذاء رياضي. 
هذه هي الصنعة في شكل وتصميم توقيع دييغو مارادونا.
لكن الطبائع والمزايا الشخصية تشارك الصنعة في تصميم التوقيع فيظهر معها الحذاءُ بوضع المنطلق، المتوثّب، المتقدم إلى أمام.
إنه ارتقاء واندفاع قائم على الاسم الأول: دييغو.
فيما يأخذ الرقم 10 شكل كرة تحت هذا الحذاء، إنه الرقم الكلاسيكي الأهم بين أرقام قمصان لاعبي الكرة، وقد اكتسب قيمة أخرى على قميص دييغو صانع الألعاب المتقدم والأمهر بتاريخ الكرة.
يريد مارادونا أن يكون حاضراً، بكلِّه، في توقيعه. هذا توقيع لا يكتفي بكناية الحذاء للرمز لموقِّعه. لا يكتفي بالحذاء ليفصح عن الهوية الكروية للنجم. هذا توقيع يشفُّ بصيغة ما عن صورة مارادونا؛ هيئته، توثبه، حركته الثعلبية.
لم يكن توثّب ماردونا وجرأته ومهارته قرائن محصورة بوجوده في الملعب، بتخصصه كلاعب كرة قدم. لقد عاش مارادونا حياته على نمط الكثير من طليعيي القرن العشرين، كان هؤلاء حاضرين بطليعيتهم حيثما يكونون، في مجالات تخصصهم وفي سواها. وكان مارادونا يمتلك الكثير من مزايا الرجل المتوثب، إنه رجل لا يحيا إلا في القلب من الاختلافات العاصفة.
يصف خورخي فالدانو، زميل رونالدو في المنتخب الوطني الأرجنتيني، رونالدو بكونه"أكثر من مجرد لاعب كرة قدم رائع. لقد كان عامل تعويض خاص لبلد في سنوات قليلة عاشت عدة ديكتاتوريات عسكرية وإحباطات اجتماعية"، مضيفاً أن"مارادونا شخصية ملهمة، لقد قدم للأرجنتينيين طريقة لمواجهة إحباطهم الجماعي، ولهذا السبب يحبّه الناس هناك".
يحمل رونالدو على ذراعه اليمنى وشماً لتشي جيفارا، وآخر على ساقه اليسرى لفيدل كاسترو. لقد تكرّس كيساري ناقم على (الإمبريالية)، شتم بوش بأقذع ما تكون عليه الشتيمة لكنه عاد فأثنى على أميركا، إنما بعد صعود الرئيس أوباما. اشتبك ماردونا مع البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان عام 1987 حينما كانا يتحادثان في الفاتيكان عن الفقر والجوع، كان يتطلع في السقوف الذهبية للمكان، وكان يقول للبابا:"بِعْسقفك وافعل شيئاً". لكن ماردونا عاد أيضاً وأثنى عام 2014 على البابا فرانسيس في روما، حيث دعا:"يجب علينا جميعاً تقليد البابا فرانسيس. إذا أعطى كل واحد منا شيئاً لشخص آخر، فلن يتضوّر أي شخص في العالم جوعًا".
هذه طبيعة رجل مستقيم، في خطّ سيره حتى وإن بدا سيراً متعرجاً. الاستقامة والاعوجاج ليسا مقترنين بشكل واتجاه المسير إنما بقدرة هذا المسير على بلوغ هدف بعينه، وكان نزوع ماردونا يسارياً في كل شيء، حصتى في استخدامه قدمه اليسرى الموشومة بصورة كاسترو.
توقيع ماردونا مثال على هذه الاستقامة. اندفاع القدم نحو الأعلى لا يخفي خط سيرها المتوثب إلى أمام، حيث الهدف.
يمكن رؤية التوقيع ويمكن مع هذه الرؤية تجسيد صورة ماردونا وهيئته.
فهذا توقيع يقارب بهيئته التكوين الجسدي لصاحبه، مارادونا؛ القامة القصيرة، والجسم المربوع، والصدر المندفع للأمام دائماً. 
لا روح بلا جسد. الإنسان نتاج هذا الامتزاج ما بين الاثنين؛ الروح، والجسد.
التوقيع بصيغة ما يحمل من جسد صاحبه وروحه ما يجعل التوقيع هوية الموقِّع. توقيع مارادونا مزيج من بصمة وصورة وكناية، ومزيج من تلقائية وصنعة، ومزيج آخر من فن ورياضة وطبيعة شخصية.
وفي الواقع فإن مارادونا النجم هو مزيج من حيويته الروحية ومهاراته بالمراوغة والتحكّم الساحر بالكرة وباستثمار خلاق لطبيعته الجسدية، قصر قامته (متر وخمسة وستون سنتمتراً) كان امتيازاً من حيث أن هذا القِصَر ساعد في جعل مركز ثقل الجسم منخفضاً وبما أتاح له اتقان السيطرة على جسده وضبط مهاراته واستثمارها بشكل خلاق.