بولستر

ثقافة 2020/11/29
...

مآب عامر
 
 
في طابور طويل صاخب، ثلاث فتيات مُتحمّسات يقفن متلاصقات يضغط زحامُ التدافع المستمر أجسادهنّ، يترقّبن بشغف كبير دورهنّ للصعود  إلى اللعبة.!      
الفضاء خانق، وثمة روائح فاغمة تغيّم بتثاقل وكثافة حول رؤوسهن: عطور رجالية متنوعة، عبق أشجار السرو التي تحدّد حواف الحديقة الواسعة، الورد الأصفر الصغير المنتشر حول الممرّات ودخان مطعم قريب للأكلات السريعة. يرتدين بناطيل جينز زرقاء سهلت لهنّ حرية الحركة، الأولى فارعة القوام، ممشوقة، عقصت شعرها الأسود الطويل إلى الخلف بمشبك أصفر ناغمَ لون كالتها يتقدمها شابان مستغرقان بالهمس والقهقهة.
حرارة الشمس رسَمت على خدودهنّ حُمرة مزعجة. الثالثة كانت شديدة التوتر، تحاول الاقتراب أكثر من زميلاتها لتوسع المسافة الفاصلة بينها وبين شاب يقبع وراءها، لا ينفكُّ عن التقاط صور السيلفي متباهياً بوسامته وأناقته وربما بهاتفه الحديث..! 
السياجُ المعدني العالي مصبوغ بدهان أخضر غامق. هيكله يشبه قضبان سجن! يحاصرهنّ هو أيضا من كلا الطرفين. يبدآن بالالتصاق في ارتباك كلما زاد عدد المصطفين خلفهن، تترصّد أحداقهن القلقة المكان بحثا عن فتاة غيرهن في الطابور أو حتى امرأة عابرة  تمرّ قريبا منه ولكن ليس سوى الأصوات الخشنة، والعطور الرجالية التي تلتهِمُ عطرهنّ الناعم.
هبّت فجأة نسمات لطيفة زاد تعرقهنّ من شعورهنّ بها. الأقصر قامة بينهنّ أكثرهن صمتا وأقلّهنّ صخبا. تميزت عنهنّ بنضج ملامحها الأنثوية الواضحة، تلفّ رأسها بحجاب عصري من قماش البولستر الأسود المزركش بزهرة أمارلس الحمراء، يكشف عن قذلة بخصلات ممزوجة بلونين: الأصفر والبني الفاتح. 
توهج الشمس بدأ بالخفوت، الوقت يمرّ ثقيلا عليهن بينما ينمو خوفهن. بقي أقل من عشرين دقيقة على تحرّك باص المدرسة، لكن الطابور لا يريد أن ينتهي، السياج المعدني أضيق من أن يتيح لهنّ فكرة تعديل وقفتهنّ، أي حركة قد تعرضهنّ للتحرش..! 
انتبهن لصرخات وضحكات صبي، يتأرجح على باب الدخول بحماس نزق... يهتف مبتهجاً لركاب اللعبة، تأمّلن اللاعبين وصراخهم الهستيري للحظات، ولكن سرعان ما طغى التجهم على وجوههنّ. فمن المحتمل أن زميلات الدراسة اجتمعنّ حول الباص، ومشرفة الرحلة تُجري الآن تِعداداً صارما للطالبات.
أفزعهنّ عامل لعبة ديسكفري متسائلاً: كم شخصا..؟ أمرهن بنبرة حيادية: الحقائب تُترك على أرضية غرفة المحرّك، وأي شيء قابل للسقوط تجرّدن منه، ثم فتح الباب لهنّ. توجّهنّ مسرعات للحصول على مقاعد متجاورة.
 تحمّسن عند سماع أغنية (تكي تكي) طلب العامل من إحداهنّ النهوض، قفزن من المقاعد ثلاثتهنّ، وأخبرها أن تخلع كالتها لأنّها قد تسقط، نظرتا إلى قدميها بسخرية واستغراب..!
خلعت حذاءها مرغمة، وعدن ثلاثتهن للجلوس أُنزلت أقفال المقاعد على صدورهن، دَار العامل على جميع المقاعد، ضاغط الأقفال الجلدي المدعم بالمعدن يضغط على أنفاسهن. فُتِحت منصة اللعبة، وبدأت تتسارع شيئا فشيئاً، والدوران يميناً وشمالاً والارتفاع عالياً. 
عَلِقَ حجاب البولستر بين أقفال المقعد، حركت القصيرة يديّها محاولة تحريره حتى سُحِبَ من على رأسها، أرادت اللّحاق والإمساك به لكنه أنسلَّ من بين أصابعها، أضحكها منظره وهو يطير ويرفّرف بعيداً، ابتسمت للهواء وهو يلاعب خصلات شعرها، أما الأخرى فقد اكتفت بأرجحة قدميها العاريتين مستمتعة بالهواء المار بين أصابعها. الثالثة أغمضت عينيها مرعوبة.
بادرنَ بإمساك أيادي بعض واستمرّ صراخهنّ وضحكهنّ. 
وبينما هنّ مأخوذات بدوار ما بعد اللعبة، باغتهنّ الصّبي، قافزاً من مقعده وغيّر مكان الكّالة بعدما خرج من بوابة اللّعبة مسرعاً.
 وقفن يتبادلن نظرات بلهاء.. ثمة ضحكة مكتومة وخوف وترقّب ودهشة... ماذا يفعلن  الآن .. هل يبحثن عن الحجاب.. أم الحذاء.. أم يهرعنَ راكضات لكي يلحقنَ بالباص...؟  
طردهنّ العامل بفضاضة من المنصة ليتمكن من تشغيل دورة جديدة.