باذبين.. ريف النصّ والذات

ثقافة 2020/11/29
...

علي وجيه 
يمتلكُ علي محمود خضيّر المشغل الأهدأ، والأكثر استقراراً بين مُجايليه، فعبر مجاميعه المتتالية (الحالم يستيقظ، الحياةُ بالنيابة، سليل الغيمة)، عبّر كثيراً عن غرفة ذاته، لكن ليس بالنصوص الذاتية المغلقة، وإنما ذات الشاعر، مسكوباً فيها العالم، حيث الرعبُ والحب والحياة والموت التي يعيشها الشاعر الهادئ، وهذه المجاميع بمُجملها، أشارت لنبرة هادئة، في وقت تعالي الصراخ الذي حفل بنصوص زملائه، الذين ظهروا بعد سقوط الديكتاتورية، وبدؤوا الطباعة والنشر وسط الحرب الأهلية.
لكن لا يمكن أن يستمرّ شاعرٌ هادئٌ وقلق مثل عليّ بهذا النسق، وعبر حواراتنا المتعددة، كان يشير إلى ضرورة التجدد، التجدد الذي يشملُ الديوان الشعري كاملاً، كوحدة مستقلة، وليس التغيير الفني في التفاصيل الداخلية، ومن هنا كان كتابه الأحدث (كتابُ باذبين – دار الرافدين 2020)، الذي صدر بعد أن أنجز جمع وتحقيق الأعمال الشعرية الكاملة للبنانيّ بسّام حجّار.
غرابةُ المفردة والغلاف تُحيلنا إلى تساؤل، ما باذبين؟ وما العود والسعفة والمرأة التي تعلّق الشمس وهم يخرجون من كتاب؟، الغلاف من مجترحات الروائي مرتضى كزار بكل تأكيد.
الكتابُ الشعري عن «علي الغربي»، القضاء الذي قضى فيه عليٌّ بعضاً من سِنيّ طفولته، فعاد إلى ذاته هذه المرّة ذاكرةً، بنصوص ريفيّة، لا تشيح بوجهها عن البيئة، فالمفردةُ الجنوبيّة حاضرة، وليست على استحياء، بل ترك بعضاً منها بلا هوامش.
لكنه كتابٌ شعريٌّ مُخاتل، ليس ككتب عليّ السابقات، هنا سردٌ وشيك، وتفاصيلُ لا تدخلُ عادةً داخل الأفعى التي بلا رأسٍ ولا ذيل، كما تُشبّه قصيدة النثر عادة، والسرد والذاكرة، والنثر وحضور الشاعر، هو ما يشكّل هذا الكتاب الغريب، على عليّ ومجاميعه، وعن النثر العراقيّ بشكل عام، ما خلا نماذج قليلة لدى طالب عبد العزيز، نامق عبد ذيب، علاوي كاظم كشيش، ابراهيم البهرزي.
يُربكُ علي ذاته الشعرية بذاته، خرجَ من غرفة نفسه إلى مدينتها وطفولتها، تدخلُ ألبوم صور عائلية، ونماذج لطيفة، لشاعر أراد أن يستريح من «الوجود» في قصيدة النثر، ليلعب في ريف ذاكرته.
يقول علي: «العصافيرُ في الطّارمةِ أليفةٌ كثيابِنا. كُنّا نتَعَرَّضُ إليها لاعبين، يرفُّ عصفورٌ على حضنِ خالتي فيضيفُ واحدنا عوداً في الرّازونة التي صيَّرها عشّاً. الضّوءُ لُغتنا، يُعرّي مسالكَ دمنا الواحد. تُؤاخي الشّمْسُ بيننا، فنصيرُ قلادةَ النّهار».