د. حسين القاصد
للأمثال الشعبية العراقية جذور في الموروث
العربي الفصيح؛ فهي أما أن تأتي باستدعاء المعنى بقالب من اللهجة العامية، وتضرب مثلاً، كما هي في فصاحتها؛ ومن بين ما استدعي وانتشر باللهجة العراقية العامية، هو المثل، عنوان المقال، ويقال هذا المثل لليأس من الانتظار؛ والمسحاة كلمة فصيحة.
فهي: اسم آلة من سحَا وسحَى، أداةُ القَشر والجرف؛ وفي الموروث الشعري العربي قال الشاعر: لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار، وقد روى الجاحظ
في (نوادر المعلمين): «ألّفت كتاباً في نوادر المعلمين، وما هم عليه من التغفل ثم رجعت عن ذلك، وعزمت على تقطيع ذلك
الكتاب».
فدخلت يوماً مدينة، فوجدت فيها معلمًا في هيئة حسنة، فسلّمت عليه، فردّ
عليّ أحسن رد، ورحّب بي، فجلست عنده وباحثته في القرآن، فإذا هو ماهر فيه، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المنقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الآداب.
فقلت: هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب.
كنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوماً لزيارته، فإذا بالكُتَّاب مغلق ولم أجده، فسألت عنه، فقيل مات له ميت، فحزن عليه، وجلس في بيته للعزاء.
ذهبت إلى بيته وطرقت الباب، [....] وإذا به جالس، فقلت: عظّم الله أجرك! لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت فعليك بالصبر، ثم قلت: هذا الذي توفى ولدك؟ قال: لا، [.....] فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي! فقلت في نفسي فهذه أوّل المناحس، فقلت: سبحان الله النساء كثير، وستجد غيرها.
فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت وهذه منحسة ثانية، قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أني كنت جالساً في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلاً عليه بُرد وهو يقول: يا أم عمرو جزاك الله مكرمة..
ردي عليَّ فؤادي أينما كانـــا فقلت في نفسي- لولا أن أم عمرو هذه ما
في الدنيا أحسن منها لما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها!!.
فلما كان منذ يومين مرّ ذلك الرجل بعينه وهو يقول: لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار، فعلمت أنها ماتت، فحزنت، وأغلقت المكتب، وجلست في الدار).
بعد هذه السياحة مع الجاحظ وأم عمرو، وحبيبها
الذي لم يرها، ليس لنا إلا أن نقول سامح الله الشاعر
جرير، ولا أظن أن شاعرا وراء انتظار (أبي علي
ومسحاته) وليس غير نسق الاتكاء التداولي وهو اليأس، والعقد الذهني مع المتلقي بالاتكاء على الموروث نسقاً ثقافيا.