(1)
أشار عليّ أستاذ من جامعة برلين بكلّ مودّة بأنّه من الأفضل لي لو أتوخّى نوعاً آخر من الكتابة، إذ لا أحد يقرأ هذا الذي أكتبه.[نيتشه، هذا هو الإنسان، 66: علي مصباح، دار الجمل، 2006]. الغموض هو أن يتمتّع النصّ بنوع من مقاومة تتطلّب استعداداً جماليّاً ومعرفيّاً من قِبل القراءة، يؤهّلها للتّجسير والربط الخفيينِ بين علاقاته، الغموض وراءه طاقةُ معرفة نوعية واسعة مركّبة يتمتّع بها الشّاعر أو الكاتب فتنعكس في نصوصه،
وهذا بالمقابل يتطلّب قراءةً ذكيّة ((تشرئبّ وتنزع إلى المدلول عليه باللفظ، فإذا حاولته فانبهمَ عليها هالها الأمرُ وطمحتْ فيه كلّ مطمحٍ، وذهبتْ في تأويله لاتساعه عليها كلَّ مذهب)) [السّجلماسيّ، المنزع البديع، 267]. ما من نصّ إلّا وكان صعباً أو سهلاً أو ما بينَهما. فالصّعوبة ليست عامّة كما السّهولة، وما يحدّد ذلك أنّ القرّاء مستوياتٌ ثقافية متباينة كما النّصوص المقروءة، وإذا ما توخّيت الدّقة النظريّة والنقديّة، فأنا دائماً ما أجعل النصوص (الصّعبة)وتلك التي (ما بينَهما) حكراً على القارئ/ وتلك (السّهلةَ) حكراً على المتلقّي، أي إنّ لكلّ من هذين نوعه الذي يعنيهمن هذه الأنواع الثلاثة من النصوص تجيد قابليّتُه الذّهنية والثقافيّة اللعبَ في مناطقها. أمّا أن ((يحتقرني متلقّون كثرٌ معيّنون حينما لا يعود بإمكانهم التّعرف على منطقتهم)) كما يقول جاك دريدا، فذلك لأنّهم لعبوا خارج المنطقة التي تتناسب حدودُها مع مستوياتهم ومُدركاتهم. يقول ابن
الرومي:
ما كلُّ قولي مشروحاً لكم، فخذواما تعرفونَ، وما لم تعرفوا فـدعوا.
المتلقّي بعامّةٍ ذو نظرة تبسيطيّة ذيليّة مختزَلة بمسلَّمات وبديهيّات بعيدةٍ عن كلّ تحليليّة. أليس كلّ نصّ ليكون شعريّاً عليه أولاً أن يكون فاتناً، أي أن يُظهِر شيئاً من سحره المخفيّ، ألا ينكشف للقراءة كما ضوء مصباحٍ دفعةً واحدة، وانما كما شمس رويداً... رويداً، وقطعة... قطعة؟. لذّة القراءة تتطلّب دائماً نصَّ الفتنة القابل لمعادلات ((الخفاء والتّجلّي)) و((تمثيل الأشهر بالأخفىوتنظير الأظهر بالأخفى)) كما كان يرى حازم القرطاجنيّ، فكما النصّ المنكشف موجود بقبوله لكلّ قراءة، كذلك النصّ المحتجِب موجود بدليل قبوله تقليب النّظر فيه وتفاعلهِ مع قراءة العمق والتأويل. هذا هو ببساطة توصيف الغامض والواضح.
ولكن إذا ما كتبنا: اللا غامض، فهل سيظلّ هذا التوصيف قائماً أو وثوقيّاً، وكذلك الأمر مع: اللا واضح؟. ولكي نقرّب القصد من وراء ذلك ونجعله حاسماً فلنكتب هذه المرة: اللا سَلْم، هذا الذي يعني بكلّ بساطة: اللا حرب، ولا يمكن أن يعني هذا التوصيف عدم وجود حرب أو سلْم. أليس غالباً ما يندرج النصّ الملتبس (المحتجِب) على التّلقّي لا على القراءة في مثل هذا التوصيف؟. لم لا؟.
القصدُ إنّ ما من نصّ محتجب بالتّمام والكمال على الدّوام ما دام قابلاً للقراءة ذلك ((أنّ في كلّ مقام معلوم، هنالك مفهوماً غير مفهوم)) كما يرجّح الحلّاج، وإنما هو ممانعٌ مقاوِم مخاتل زائغ، وفي الوقت نفسه قابلٌ للمحاكاة والحوار إذ ((إنّ كلّ ما يحتجب على مثل هذا النحو يبتعد عنّا، إلّا أنّه يأخذنا معه على طريقته، ما يحتجب يبدو غائباً غياباً تامّاً، إلّا أنّ هذا مظهر خادع، فما ينسحب هو حاضر لأنّه يجذبنا سواء تبيّنا ذلك حينَه أو فيما بعد، أم لم نتبيّنه البتّة)) كما يشرح بارت، أي إنّه يرجِّئ فهمه لقراءات أُخر، من دون هذا التواصل القرائيّ الفعّال يعني أننا أمام ((القراءة الميّتة)). القارئ ليكون فعّالاً لابدّ أن يتمتّع بالمرونة العقليّة التي من شأنها تمكينه من التفاعل مع كلّ ما هو مبتكَر ومختلِف خارج سياقيّ، وتختلف درجات هذه المرونة وقدراتها ونِسبها من قارئ مرن إلى آخر، هذا القارئ هو هدف كلّ نصّ محتجِب، سبق وأن رأى الفيلسوف لوي التوسير أنّ القراءة يمكن أن تصنّف إلى صنفين: ((قراءة منفعلة)) و((قراءة فعّالة)).
كما ميّزها بارت ما بين ((قراءة ميّتة)) و((قراءة حيّة))، من هنا بالمقابل يمكن أن نفهم تصنيف القرّاء للنصوص من جهة افصاحها عن نفسها ما بين بديهيّة جليّة، وغامضةٍ صعبة المراس جوانيّةٍ محتجبة. فأن تكون القراءة قاصرة ثقافياً ومنهجيّاً لا يعني أنّ المقروء ميّت أو في الأقلّ كفيفٌ وأبكم، كما أنّ النصّ الحيّ يمكن أن ينقسم الى قسمين أيضاً: فعّالٌ بشبكة علاقات جماليّة ومعرفيّة؛ يتطلّب فكّاً وفحصاً بعيدَي نظرٍ منهجيّاً وثقافيّاً، يتطلّب توليداً، فأن يكون النصّ محتجباً بهذا المعنى يعني أنّه كما دفينة تتطلّب خرائط ولوازم حفرٍ وتنقيباً للكشف عن هذا المحجوب، كون ((الحقيقيّ ليس أكثر الوقائع ظهوراً وتجلّياً، لأنّ طبيعة الحقيقيّ تتجلّى في حرصه على الاحتجاب)) كما يقول كلود ليفي شتراوس، وبمعنى أوضح ما هذا الحقيقيّ عمقيّاً إلّا ((اللا احتجاب)) كما وصّفه هايدجر، أي غير الظّاهر وغير المختبئ، كما في تبسيطنا السّابق عن اللا حرب/ اللا سَلْم. ذلك هو النصّ المركّب نصُّ الطّبقات أو الطيّات أو الثَّـنيّات نصُّ الفيوض والحدوس والتأويل. بداهة إنّ ((ما يميّز الظّهور هو الاختفاء لأنّ جوهر الأشياء يتّسم بالاحتجاب والغموض والاختفاء، الأمر الذي يتطلّب اكتشافه)) كما فهمنا من هيراقليطس، ذلك أنّ الشّيء لا يكون موجوداً إلّا بوجود ناقضه، ولكن إذا ما كان شيء ما يحمل ناقضه في ذاته كما الشّمس، على سبيل التمثيل؛ من جهة كونها جرماً بلازميّاً غير ظاهر المعالم بالنسبة إلينا بسبب لمعانها الذاتيّ الهائل، فهي ظاهرة بطبيعتها ومحتجبةٌ في آن، من هنا هي ليست كوكباً كما الأرض يتطلّب مصدراً خارجياً ليضيئه، إنّها العتمة التي تضيء نفسَها ذاتياً، إنّها كما السرّ الذي ما كان ليكون سراً لولا أنّه قابل للظهور ((لأنه لو بقي مكتوماً خافياً أبداً لكان والمعدوم سواء)) كما يقول التوحيدي في المقابسات. أليس إذاً ليكون كلّ نصّ فاتناً لابدّ أن يكون كما الشمس عتمةً تضيء نفسَها، وكما السرّ القابل للفكّ والظّهور؟.
عندما نتكلّم على الغموض لابدّ ألا نسهو عن أنّ المقاومة التي تجابهها القراءة أحياناً؛ إنّما مردُّها اللَـبْسُ؛ تلك القوّة التي ((تماهي بين الخيال والواقع)) بين القدرة التي تتمتّع بالرؤية، وقدرةِ الرؤية على التفاعل معها.
ما الضّير إذا ما قلنا إنّ القراءة فعل انتاجيّ وفقاً لمفهوم الانتاج الاقتصاديّ، أليس كلّ نصّ مادة تنتج في مشغل الكتابة؟. أليس النصّ مكوَّناً من موادّ أوليّة كاللغة والأسلوب والرسالة والخطاب، وفي المقابل أليست القراءة، هنا، لابدّ أن تكون اعادة انتاج متواصلةً لهذه المواد؟. ثمّ أليس الطابع الذّوقي لجمهور قراء الأدب هو بعامّةٍ ذو جذور اجتماعيّة
- ثقافيّة؟.