محمد تركي
يعد بيلي كولينز أحد أبرز شعراء الولايات المتحدة المعاصرين إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، وبعد نشره أكثر من اثني عشر كتابا شعريا واختياره شاعر الولايات المتحدة بين 2001 - 2003 وانتشار شعبيته بشكل متسارع، فإن خاصيته الأساسية هي أنه يضاهي عظمة "والت ويتمان"، "وروبرت فروست"وبعدهما اودن في تقريب الشعر للجمهور وجعله شأنا يدخل في مفردات حياتهم اليومية ويغني من مستويات وعيهم وحسهم المختلف بالأشياء.
يتميز شعر كولينز بالبساطة العميقة وطاقة الامتاع التي تجمع بين المعرفة والحكمة السهلة..وبساطته تغري بالمزيد من القراءات، التي تساعد في إضاءة نصوصه، حيث يعبر الشاعر في مناسبات عدة عن ولعه وإخلاصه للقراء، مقيما معهم حوارات خلاقة، خصوصا أن عدد هؤلاء تجاوز مئات الالاف، بل أكثر وبلغت مستويات مبيعات كتبه حدا قل أن يبلغه شاعر اميركي معاصر، ناهيك عن ذيوع صيته وانتشار كتبه وترجمته إلى عشرات اللغات العالمية ومنها العربية.
وسواء تحدثنا عن نخبة القراء الذين تكون متطلباتهم الفنية أعلى سقفا بحكم تكوينهم المعرفي والروحي أو ركزنا على عامة القراء، فان بيلي كولينز يوصف من قبل النقاد والمتابعين، بأنه شاعر الأمة الأميركية المعبر عن هموم وأحلامشرائح واسعة من محبي الشعر، الذين يجدون في شعره محفزاً للتفكير السلس الممتع والمفرح أيضا بتجارب الحياة اليومية المتنوعة في نسيج سهل يجمع بين المشاهد الواقعية والتفاتات الحس السريالي المنطوي على نوع من الفكاهة المتهكمة التي تثير شغف القراء بالأشياء والأفكار غير المعقدة.
وفي حواراته المتعددة يتحدث كولينز عن القصائد (بوصفها ممرات للوصول الى نقطة معينة واصفا اياها بأنها تجارب اكتشاف في النهاية)، مفضلا التركيز على الكيفية التي تعمل بها القصيدة أكثر من الحديث عن ماذا تعني، أنه يركز على تفاصيل الحياة اليومية ملهما المتابعين للتساؤل والتفكير بالأشياء المنسية في حياتهم اليومية.
ومثلما يعرف كولريدج الشعر بأنه أفضل الكلمات بأحسن ترتيب لها فان كولينز يعرف كيف يختار هذه الكلمات ويضعها على الورقة بما يمكن الجمهور من التواصل معها.. وفي قصيدته المعنونة (المبعوث) التي نركز الحديث عليها هنا، يدعو كولينز (الكتاب الصغير) للبقاء خارج المنزل أطول فترة ممكنة داعياً إيّاه أي الكتاب إلى عدم الاتّصال أو الكتابة أو القلق بشأن بقائه خارج المنزل والتحدث بدلًا عن ذلك أطول فترة ممكنة مع الغرباء في إشارة واضحة للقراء بصورة شعرية تجعلك تحس فعلا إنك تتعامل مع كائن حي وليس تركيبا مكونا من الورق والكلمات.
وبرغم بساطته وقدرتهالمميزة علىإمْتاع القراء إلى درجة الضحك أحيانا فإن كولينز يبقى محافظاً على رصانته التي تظل محبوبة للجمهور، إنه خبير في كيفية السيطرة والابتعاد عن الانْزلاق إلى ما يمكن أن اسميها الخفة المبتذلة..وبطاقة زاخرة يخلق مجالاً اسْتعارياً حيوياً لا يعتمد على ما تراكم من إرْث الذاكرة الشعرية التي استهلكتها القراءات على مر الأجيال والعصور. إن جدته وحداثته تحتفظان بامتياز نادر جدا وهو أن ثقافته العميقة لا تكون عائقا للتواصل مع القراء، بل إن تركيب الرؤية لديه يخلق مستوى من مطاطية الروح واللغة وبينهما لذع المفارقة الذي يجذب المزيد من الجمهور حيث يزداد عددهم الافا يوميا داخل وخارج الولايات المتحدة بحكم الإضافات الشعرية المميزة التي تتجلى في عدد كبير من دواوينه الشعرية ونشاطاته الأخرى للتواصل الكترونياً أو بشكل مباشر في قصائد تزداد حذاقة عن طريق ملامسة مختلف تفاصيل الحياة اليومية والحفاظ على هذه المسافة الجمالية بالذكاء والفطنة والمراس وكذلك بالسيولة اللغوية والابْتعاد عن المفردات الغريبة والإبْهامات الملغزة التي قد تنفر القراء.
إن قصيدة (المبعوث) المنشورة في أحد دواوين الشاعر أنموذج مميز لموهبة شاعر لا تكون الثقافة والثراء المعرفي عبئين على تجربته وحساسيته الشعرية، بل على العكس يسهم هذان المكونان في تحقيق سلاسة الوصول إلى طزاجة الحس التواصلي وإرْهاف الرغبة للإقدام على تفاصيل الحياة اليومية:
(أيها الكَتِاب الصَغِير
انْطلِق مْن هذا المَنزِل إلى العَالم
عَربة وَرقية تَسعى باتَّجاه المَدِينة
لا تَستوعب أَكْثر منْ مُسَافر وَاحِد
أبعد مِما يَصِل إليه
هذا القَلْم الغَاضِب
وخارِج حُدود هذا المَكْتب
والمِصْباح الفضوليّ المَعقوف)
الكتاب هنا هو ديوان الشاعر الذي يحثه على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء..
إنها دعوة قوية للمغامرة والتعرف على أكبر عدد ممكن من القراء:
(إنه الوقت الذي تستحق فيه
أن يكافئك الاخرون
وأن تتلقفك الأيدي الأجنبية )
إن كولينز وهو شاعر الأمة الامريكية كما اسلفت يؤمن بمسؤوليته في نشر الشعر والجمال لأن هذا من أساسيات المسعى الحقيقي في بناء مستويات روحية متفوقة لتأكيد دور القصيدة في صياغة المصائر والتوجهات الروحية والجمالية بكل احتمالاتها الممكنة.
فلتنطلقوا
يا أطفال العقل
بصحبة موجة
وبعض النصائحالأبوية
ابقوا متأخرين
كما يحلو لكم في الخارج
وحاولوا التحدث
مع أكبر عدد ممكن من الغرباء.