د.أحمد الزبيدي
إذا كان النقد العربي القديم، القائم على المنهج والتحليل، قد ولد في حضن الاعتزال، فإنه أسس بذلك الرؤية العقلية في الأحكام النقدية، وقراءة التجربة الشعرية بعد نضجها واكتمالها وتحولها إلى نمط له فاعليته بالحياة الثقافية، ومن هنا تشكلت رؤى نقدية على وفق مرجعيات مختلفة ضمن اشتغالهم المعرفي؛ وحين تعطلت العرب عن أن تكون حضارة فاعلة في العالم، مع سقوط بغداد بسيوف المغول، لم تبرز مدارس معرفية كونية في المجتمع العربي، وانعكس ذلك على الحقل النقدي الأدبي، الذي عجز عن انتاج نظرية نقدية تؤسس لمعايير جمالية، يحتكم إليها الناقد في اصدار أحكامه النقدية، ومن هنا كانت أبرز الحركات الشعرية الحديثة تنبع من التأثر بالمذاهب الغربية فتصدّر أصحابها الترويج الإعلامي لتصوراتهم الأدبية ، بل تصدروا - أيضًا - التصورات النقدية. وهذا ما نجده عند جماعة الديوان وأبولو والمهجر وحركة الشعر الحر..
ومن هنا بدأت الحركات الأدبية وتحولات الأشكال الجمالية تُشَخّص من داخل منظومة الجماعة قبل الرصد النقدي الخارج عنها..والأمر الآخر أن تعدد الجماعات الأدبية هو في الأساس تعدد في الاختلافات الإيديولوجية. وتحوّل يقوم على نوازع خارج المنطقة الأدبية يؤدي إلى الحذر والترقب للتشكل الهوياتي الجديد للمنطقة الجمالية، وعليه فالنقد الآني الموازي للحركات الأدبية يفقد بعضًا من مصداقية أحكامه، فتكون تغيراته وتحولاته تبعا للتحول الإيديولوجي، ومن هذا المنطلق فالنقد ليس بالضرورة أن يكون آنيا؛ ولم يحمّله أحد مسؤولية الترجمة النقدية الفورية بل هو مسؤول عن تأسيس بنى معرفية وفكرية ومنهجية مبنية على مرجعيات فلسفية وعقلية تغذي الحركة الأدبية والنقدية بالمعايير والقوانين التي تفسر الخصائص العامة لفرادة العمل الأدبي ليأتي الناقد الإجرائي ويبحث عن الخصائص المتفردة والخاصة بالتجربة التي يتناولها.. ولا يخفى وجود محاولات نقدية عربية جادة في التأسيس النظري، حاولت تفسير الظواهر العامة ولكنها لما تستطع أن تشكل مرجعيات مهيمنة للمنجز النقدي العربي، فمثلما تشيع في منجزنا الشعري ظاهرة الشفاهية كذلك تبرز في نقدنا ظاهرة (النقد الشفاهي) الذي يقوم على الأحكام الانشائية التي تصدر قبل أن يجف حبر القصيدة.