حين يكون القارئ كاتباً

آراء 2020/12/02
...

    عطية مسوح* 

 
 
 من هوالأكثر تأثيراً في الآخر: النصّ أم القارئ؟ الإجابة المألوفة عن هذا السؤال واضحة، فالنصوص هي التي تؤثّر في القرّاء وتكوّن آراءَهم وثقافاتِهم، والكتّاب والإعلاميّون هم صانعوالرأي العام. لكنّ النظر العميق في هذه المسألة قد يوصلنا إلى استنتاج آخر يبدوللوهلة الأولى غريباً، وقد يرفضه الكتّاب والإعلاميّون قبل القرّاء، لأنّهم يرون فيه انتقاصاً من أهمّية ما يكتبون، وتسوية بين دورهم الطليعيّ المتميّز نوعيّاً ودور القارئ المتأثّر، أي بين المثقِف والمتثقِف، بين من يعطي ومن يأخذ. 
والطريق إلى استنتاجنا يمرّ عبر سؤال آخر هو: كيف يكتب الكاتب وكيف يقرأ القارئ؟ يولد النصّ من ثلاثة عناصر مترابطة متداخلة هي: ذات الكاتب، وثقافته، والواقع الذي يعيشه. فالكاتب موهوب بالفطرة، ومصقول بالتجربة والثقافة، يقرأ الواقع متسلّحاً بموهبته وثقافته، ويختار منه مادّة كتابته، ويصوغها بلغته التي هي جزء من موهبته وثقافته. وبذلك يأتي النصّ تكثيفاً لمعرفة معيّنة بالواقع ولمستوى محدّد من التفاعل معه. 
أمّا القارئ فإنّه يقرأ النصّ على قاعدة ثقافته وميوله وتكوينه، ووفق فهمه للواقع القائم (الراهن) والواقع الذي يتطلّع إليه. 
وكما أنّ النصّ هو نتاج للتراكم الثقافيّ لدى الكاتب، وتعبير عن رؤيته للواقع وتطلّعاته المستقبليّة، فإنّه كذلك أيضاً حين يضعه القارئ بين يديه. وبهذا يمكننا القول إنّ علاقة القارئ بالنصّ ليست علاقة آنيّة عابرة، ولا تنحصر بالحدود التي أرادها الكاتب، بل هي أعمق وأبعد. واستناداً إلى ذلك يمكن أن نرى القراءة فعلاً تواصليّاً، له جانبان، أوّلهما: تأثّر القارئ بما يقرأ، وثانيهما: تأثير القارئ في ما يقرأ.نعم، إن القارئ يؤثر في ما يقرأ، بمعنى أنّه يجمع في قراءته بين النصّ كما وضعه الكاتب، والنصّ كما فهمه القارئ وأراده. 
وعلى هذا النحويكون القارئ المتبصّر كاتباً آخر للنصّ، يعيد كتابته في ذهنه، لا على الورق. إنّه يُخرج ما يقرأ من أسر الكلمات، أوعلى وجه أدقّ، يمنح الكلمات دلالات جديدة تعيش في ذهنه بوصفه قارئاً متفاعلاً له شخصيّته وتكوينه، له ثقافته وتجربته وتطلّعاته. وحين ننظر إلى القارئ بوصفه كاتباً آخر للنصّ نصل إلى أنّ النصّ المتميّز القويّ هوالذي يشدّ إليه القرّاء القادرين على إعادة كتابته جزئيّاً وبنسب متفاوتة، فيمنحونه بذلك القدرة على التجدّد واستمرار التأثير، أي يمنحونه الحياة. النصّ الجيّد إذاً هومادّة مفتوحة أمام القارئ، ومن هنا نجد أنّ أكثر ما يسيء إلى النصّ هوأن يكون مغلقاً، أوقطعيّاً، أي أن يقدّم الكاتب فيه أفكاراً يظنّها محسومة ونهائيّة، وأن يضعها في صيغ توحي إلى القارئ بذلك. وبالمقابل، فإنّ أكثر ما يجعل القارئ سلبيّاً هامشيّاً غير قادر على التفاعل مع النصّ وإعادة كتابته، هواستسلامه لما يقرأ وتسليمه بصحّة ما يحتويه من أفكار، أوانغلاقه أمام ما يقرأ ورفضه إيّاه رفضاً قائماً على موقف مسبّق محسوم.
 وإذا كان الكاتب الذي يقدّم أفكاره بوصفها نهائيّة ومطلقة الصحّة يفعل ذلك انطلاقاً من ذاتيّة مفرطة واعتداد بالنفس يصل إلى درجة الشعور بامتلاك الحقيقة، أومن منطلقات آيديولوجيّة توصِله إلى الشعور ذاته، فإنّ موقف القارئ الذي يقبل قبولاً تسليميّاً أويرفض رفضاً مسبّقاً هوموقف أيديولوجيّ أيضاً، فثمّة آيديولوجيّة ما، أوفكرة ما، سيطرت على عقله، فقتلت وعيه وقيّدت تفكيره، ومنعته من التبصّر فيما يقرأ، وحالت بينه وبين إعادة كتابة النصّ في ذهنه والإفادة منه في وعيه وسلوكه.قد يجد بعض القرّاء أن كلامنا هذا ينطبق على النصوص الأدبيّة من شعر وقصص، وعلى الأعمال الفنّيّة من رسم أوموسيقا أوسينما، لأنّها تحتمل شيئاً من الغموض الفنّيّ الذي يفتح بات تنوّع التأويلات وتعدّد الاستجابات الذهنيّة والعاطفيّة، ولأنّ عنصر الخيال القويّ فيها يثير خيال القارئ أوالمشاهد باتّجاهات مختلفة، بينما لا تحتمل النصوص الفكريّة مثل هذا التباين، لأنّ الوضوح سمة ضروريّة فيها، ولأنّها تهدف أصلاً إلى إقناع القارئ بفكرة معيّنة أودفعه إلى موقف محدّد.
  قد يكون في هذا التفريق بين النصوص والأعمال الأدبيّة والفنيّة والنصوص الفكريّة، من حيث طريقة تفاعل القارئ أوالمشاهد معها، جانب من الوجاهة والصواب، ولكنّ السبب في تنوّع الرؤى والانطباعات واختلاف ما تثيره النصوص من درجات واتّجاهات في التفاعل، ليس هوالغموض فقط، بل ليس الغموض هوالسبب الأهم، وإنّما هوالانفتاحُ في الدلالات التي يحملها النصّ إلى القارئ، وتعدّدُ الدلالات المحتملة في إطار الموضوع المطروق، وقدرة النصّ على تبادل التفاعل مع مستويات ثقافة القارئ وتكوينه النفسيّ والعقليّ، وهي – أصلاً – قدرة المؤلّف التي يسبغها على نصّه. فالنصّ الفكريّ الذي يثير لدى القارئ التساؤلات، ويفتح له باب المشاركة في البحث، أي النصّ الذي يكشف قدرة القارئ على مناقشة ما فيه من أفكار، لإعادة تكوين النصّ ذاته وفق ما يراه القارئ، هوالنصّ الأكثر فاعليّة وحيويّة واستمراريّة. هكذا ترتسم علاقة سامية راقية بين القارئ والنصّ، جوهرها التفاعل والتأثير المتبادَل، فلا يكون النصّ واحداً بين أيدي جميع قرّائه.
                          
 * كاتب وباحث من سوريا