الفلسفة والرفض

آراء 2020/12/02
...

 د. علي المرهج

أعتقد أن التساؤل الفلسفي هو شكل مستتر من أشكال الرفض، فهو ينطوي على تشكيك، والشك بحد ذاته، هو منهج فلسفي اعتمده كبار الفلاسفة وإن اقترن بديكارت، ولكن كلنا يعرف توجه السفسطائية ونزعتهم الشكية القائمة على التشكيك بالمعرفة المطلقة وتبني القول بالمعرفة النسبية، التي تتغير بتغير الإنسان ومدى معرفته.
إفلاطون نفسه الذي يؤمن بالحقيقة المطلقة رفض هذا الوجود الواقعي وشكك في أن يكون هو الحقيقة، فقال بحقيقة مثالية مطلقة نسعى للوصول إليها وإدراكها عبر المعرفة والفضيلة.
سقراط نفسه رفض الفكر السائد في مجتمعه، فوصفه المعارضون الرافضون لفلسفته بأنه يسعى لتخريب عقول الشباب.
يرتبط مفهوم الرفض بمقولة "اللا"، وهي بحد ذاتها نزعة للتمرد على القيم السائدة البالية وعلى السياسة والعم التقليديين، فيها نزوع للتغيير وبناء للذات الفردية واستقلالية العقل في قدرته على اتخاذ قراراته من وحي الوعي بالرفض و "اللا" والما قبل للرفض، وما يؤول إليه الحال بعد تبني "اللا" أو الرفض نزعة شجاعة للمواجه ورفض التبعية لأحد.
تنطوي مقولة "اللا" أو الرفض على ممانعة وسير باتجاه الوعي الفردي وعدم الانسياق مع "الجمع" أو قل "القطيع".
تقتضي فلسفة الرفض ليس الوعي فقط، بل ما يُمكن تسميته "الوعي المسؤول"، وهذا الفهم للرفض يدفع باتجاه "الاستقلالية" ولا يعني هذا رفض الجماعة، بل وعي دوره كفرد فيها، ووعيها بوصفها أصلا في وعي الفرد لوجوده، ولكنها لا تسيره.
في الماركسية جاء ذكر مبدأ نفي النفي، وهو أحد قوانين المادية الديالكتيكية، وقد تتبادل الأدوار بين المادي والحيوي، فطالما كانت الحياة في تطور دائم، فمصيرها النهاية، والنهاية تعني القول بأن المادة لا تُفنى، ولكنها قد تتحول إلى نوع من أنواع انعكاس الوعي.
تفاعل فكرتين عند هيجل يولد فكرة جديدة، وفي ولادة الفكرة الجديدة نفي للفكرتين الجدليتين، وكذا الحال في الماركسية، فالنفي في الهيجلية والماركسية على اختلاف تمظهراتهما عند في نفي الفكر للفكر ونفي الفكرة الجديدة للقديمة، وفي الفلسفة الماركسية في ما يتعلق بصراع الأضداد، ولكنه ليس نفياً يُقابل العدم، بل هو نفي ضمني كما يقول أهل اللغة.
ربطت الماركسية مفهوم النفي بالوعي الاجتماعي و"صراع الطبقات". نفي الجديد للقديم ، وهذا الجديد يحمل عناصر نفيه في دااخله مثلما يحمل عناصر تطوره من داخله أيضاً. شبيه بفكرة العقل بالقوة والعقل بالفعل عند أرسطو. وهو شبيه بمفهوم "القطيعة الأبستيمولوجية" عند باشلار، فهي قطع وصل، لا ونعم، بمعنى "القطع مع القراءة "التراثية للتراث" كما يقثول محمد عابد الجابري، ووصل بالتراث، من جهة قراءته والافادة منه من جهة فهمه في مقتضيات تحولاته التاريخانية بتعبير عبدالله العروي.
لا جديد يولد من لا شيء، بل من قديم سبقه، ولكن قد يقوم أو يتأسس على أنقاضه، أو يخرج من بطون ركامه.
قانون تبدل الكم إلى كيف، يشبه قانون "الكون والفساد" عند أرسطو، وقد سُميّ صراع الأضداد، وهي فلسفة تقترب من ما قدمه سبينوزا حول (الطبيعة الطابعة) و (الطبيعة المطبوعة)، أو ما قدمه هيجل، في ما يخص تبادل الأدوار بين المثالي والواقعي.
المادة في فكر هيجل ليست سوى انعكاس للوعي، بمعنى أن المادة تجلي محسوس للوعي، وهذه الفكرة تتعارض مع القائلين بأسبقية المادة على الوعي.
في كتابه "علم المنطق" كشف هيجل فيلسوف المثالية المطلقة كما جاء في كتاب (زكريا ابراهيم) عن قانون التغيرات الكمية إلى الكيفية، ليوضح لنا عن قانون "التناقض"، بمعنى أن كل فكرة تحمل نقيضها معها، والنقيض مُضمر في الفكرة، ومن هذا الصراع ينتج لنا "الديالكتيك"، وتجدد الصراع بين القديم والجديد، والفكرة ونقيضها، ليكون النفي هو جوهر وجود الفكرة عند هيجل والهيجليين، وهو ذاته عند الماركسيين على ما بينهما من اختلاف من جهة النظر لطبيعة الصراع.