هايدغر: خطأ في ترجمة اعمالي قاد سارتر إلى الوجودية

ثقافة 2020/12/02
...

أندريه فزنيسينسكي
ترجمة: مهند الكوفي
حوار سن العقل، فرايبورغ 1967
لقد كان الأمر مثيرا للاهتمام ومستحيلا. على العكس من الحملة الجماعية لمثقفينا على سارتر، في موسكو قبل هذا اللقاء بسنوات قليلة. 
من بعيد لمعَ رأس هايدغر الأصلع، وتبين جسمه الممتلئ، شخص قوي البنية ويغرق بعمق في الكرسي! 
مارتن هايدغر نابغة الفلسفة الألمانية والعبقري الأخير في أوروبا. يتربص في الزاوية المظلمة من ذاكرتي متجذرًا بعمق. كان يجلس في الجزء المعتم من المطعم، يشرب نبيذ فيينا. لقد رأيت هذا اللمعان المصقول، من دون تمييز تعبيرات وجهه! أثناء خطابي عن المسرح في - جامعة فرايبورغ - كان ذلك في 14 فبراير 1967.  نظر لي  بشكل مريب، بابتسامة اصطناعية متلألئة!. 
 
من هو فزنيسينسكي؟
أثناء التحضير لتصوير الحلقة، أجرى المنتج محادثة تجارية، من دون موعد مسبق! مما جعل هايدغر يتحول لشخصٍ آخر ولكن من دون غطرسة. بسرعة كبيرة تحولت المحادثة إلى مشكلة تكنولوجيا، والتي قدمها فزنيسينسكي بكل ما يمتلكهُ من خبرة وثقافة عاليتين ولغة شعرية مهمة، إذ يتمتع فزنيسينسكي، وهو مهندس معماري، بقدرة التفكير الشعري، على عكس الفنانين الطليعيين الذين يتلاعبون بالمفردات العلمية المملة.  
اندريه عميد الأدب الروسي في ستينيات القرن الماضي، ولد في موسكو مايو عام 1933. كان «واحداً - من أكثر الكتاب جرأة في الحقبة السوفيتية- ولكن أسلوبه صارمٌ بعض الشيء مما أًنتقد كثيرًا من معاصريهِ. وكان مهددًا بالطردِ من قبل نيكيتا خروتشوف (رئيس الاتحاد السوفيتي الأسبق). 
أجرى قراءات شعرية في جميع أنحاء العالم، وكان يحظى بإعجاب كبير لتوصيلهِ الفكرة برشاقة عالية. تمت ترْجَمة بعض شعره إلى الإنجليزية. كان بوريس باسترناك، الحائز على جائزة فزنيسينسكي وجائزة نوبل ملهمهُ الأول، كان مهتمًا بشدة لأعمالهِ. 
كتب فزنيسينسكي أول مجموعة شعرية له «الفسيفساء» بعدها كتب القصائد المشهورة مثل “فتاة تبكي في الآلة”، “في بلدي”، “شقان”، “كسوف القلب”، «مليون قرمزي”، المترجمات إلى اللغة الإنجليزية، بطلب من رئيس الولايات المتحدة جون كينيدي آنذاك، وفي 1 يونيو 2010 توفى عن عمر 77 عامًا. 
 
سارتر خرج من معطفِ هايدغر
بدأ فزنيسينسكي الحوار مع هايدغر سائلًا: 
* استخدمتَ أكثر من مرة في كتاباتك صورة لمعبد يقف على صخرة! هل هي بمثابة استعارة للخلق؟
- من خلق العالم؛ لا يعطي للمعبد أي شيء! ولكن الله يُثبتْ من خلال المعابد!. لا يتم تصوير الله ليجعل من الأسهل ملاحظة ما يبدو عليه؛ صورة الخليقة تسمح لله بالالتزام. الله نفسه من خلق الكلمة. الخالق يسمي الأرض لتكون الأرض! “. الجمال هو الطريقة الوحيدة للحقيقة!
قال اندريه: عندما نشرت في ميونخ بعض المنشورات التي كتبتها سابقًا أستغربها كثيرًا اليوم! -كُتبنا لم تنشر معنا حتى الآن ، يا للعار-. حاولت قراءة أعمالك باللغة الإنجليزية في ذلك الوقت، لكنني استطعت أن أقنع رأسي! فيما يتعلق بمصطلحاتهِ التي يصعب ترجمتها. صحيح، في ذلك الوقت كنا مفتونين بالمجلدات المحرمة المبعثرة في بيرديايف، كيركيجارد وشستوف، الذين كتبوا مقالات عن هوسرل، الذي عشقه الفيلسوف فرايبورغ. كنت أعرف بالطبع أن سارتر خرج من معطفِ هايدغر مجددًا، هذا الكاتب الذي قادني مصيره بالفعل. 
 
سارتر هو الممثل الحقيقي “للوجود”
يجلس هايدغر، يعقد حاجبيه، بدلته من ثلاثة قطع، وعينين متوترتين، بدأتا أثناء المحادثة بالتألق بفعل الويسكي. عبس هايدغر، ثم تحرك رأسه الممتلئ بالأفكار، وابتسم عندما سأله اندريه: 
 
* منْ سارتر؟
 - سارتر، يكمنُ مصدر فكرته الأصلية في ضعف معرفته الألمانية! إذ ارتكب خطأً، وترجم بشكل غير صحيح فصلين من أحد أعمالي.. ثم تحرك هايدغر بقلقٍ قائلًا: وقد وَلَّد هذا الخطأ نظريته الوجودية! 
 
* ما موقفكَ منهُ؟ 
- تعريفهُ لمفهوم “الوجود”!.. أعتقد أن سارتر هو الممثل الحقيقي “للوجود”. اختلافي مع الوجود الذي ترجموه، وليس الوجود الذي يعرفهُ سارتر بلغتهِ الأم! هناك اختلاف كبير بين النص الحقيقي والمترجم! أعتقد أن المترجم يفكر بالنيابة عما يريدهُ الكاتب الحقيقي وهذه مشكلة كبيرة. لذلك إن تعريفي لـ “الوجود” كونه منفتحًا للحاضر والماضي والمستقبل “أتمنى أن يعرف العالم اللغة الألمانية كي يفهموا ما أريده بدون واسطة المترجم”. 
 
الخطاب العاطفي
سأل اندريه هايدغر: في الشعر، ما رأيك بالقصيدة المفتوحة؟
- الترابط الشعري المميز.
قال اندريه: عندما جاء سارتر، قرأ وناقش أمورا كثيرة وذلك في ​​مكتبة في موسكو. ثم في مقابلة وصفها بالحدث!
عندما رأيتهُ في الحقيقة، كانت عيناهُ مفتوحتين بشدة، ويحدق بفارغ الصبر في وجوه الحاضرين. وصل سارتر مع زوجته سيمون دي بوفوار ولديهم رسائل كثيرة.
الأستاذ الذي تحدث خلال المناقشة وصف قصائدي بكلمات غير مفهومة – معدات غوصٍ، الترانزستور، عنصرية، لا أخلاقية-. حرضت الحاضرين على الضحكِ. انحنى سارتر نحوي ويهمس: “أعتقد أن هذه الكلمات استخدمتها لفتاة جميلة”. كان يحب الخطاب العاطفي في الدفاع عن الشعر، والذي أدلى به الشاعر الشاب الكسندر أرونوف.
كتب سارتر: “غالبًا ما أُتهم بإهمال الشعر! الدليل، ما يقولونهُ لي: هو أن مجلة تان مودرن لا تطبع الشعر”. دحض هذا  وقال: في مجلة تان كان ذلك قراري فعلًا. 
لقد احتقر الصحافة الوصفية في الشعر: “لا ينبغي للمرء أن يتخيل أن الشعراء منشغلون بالبحث عن الحقيقة وتفسيرها؛ يتعلق الأمر بشيء آخر. الشخص العادي، عندما يتحدث، يكون على الجانب الآخر من الحقيقة، بينما يكون الشاعر دائمًا على هذا الجانب. وغير قادر على استخدام الكلمة كدليل شعري واقعي، يرى فيه صورة لإحدى الحقائق”.
قال اندريه: للأسف، انقطع اتصالي بسارتر بسبب بوريس باسترناك! رفض سارتر جائزة نوبل، واِتّهم الأكاديمية السويدية بالسياسة، كان مثل مهاجمة بوريس باسترناك للأكاديمية ولكنهُ حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1958). 
الشعر ثورة فكريَّة 
سأل اندريه: كيف يرى هايدغر أساليب كتابة الشعر؟
- أوه، إذا كانت صيحاتي ومعاناتي توزن وتؤطر وتوضع في قوالب، لم يعد شعرًا حينها!!
اندريه: «في محادثة مع هايدغر، ففضلا عن الكلمة الافتتاحية لحفلتهِ في- جامعة فرايبورغ- أثار فزنيسينسكي مشكلة الترجمة! عندما قال: حتى الترجمات الجميلة تبقى ناقصة! والشيء نفسه يجرى على الترجمة الشعرية التي تُترجم أصواته فقط. ولكن في الوقت نفسه، هناك دائمًا بقايا من الغموض وهو أمر غير مفهوم على وجه التحديد لأن الترجمة تختلف عن اللغة المنطقية، اقصد بذلك التفكير بالنيابة في نقل الإحساس الشعري. 
هز هايدغر رأسهُ بالموافقة، وقال: مع ذلك، فإن الناس يفهمون الكلمات الشعرية وليس الشعر نفسه! دليل على ذلك، تصبح الليتورجية اللاتينية أو القداسة اليونانية القديمة واضحة، حتى لو تم نقلها بلغة غير مألوفة لأن الناس تفهم الدين وتعرفهُ بالفطرة».
 
* سأل هايدغر اندريه: عن معنى كلمة «الحقيقة» ما هي الحقيقة؟
- أجاب اندريه: الخلق  “الحقيقة هي الحقيقة! لكنها أيضًا عدالة وصحة ومؤشر لكيفية التصرف والعمل عليه! كلمة “الحقيقة” تعود إلى جذر “هي”. هذا يشير إلى الواقع! وان الشعر يتعامل مع كشف الحقيقة”.
- أجاب هايدغر: “الشعر لا يعيد إنتاج أي شيء، أنه يبين فقط”
نحتاج إلى الكتابة باستمرار، ركضت بسبب قصر الحياة، لا يوجد هناك الكثير من الوقت لا يمكن الانتظار! دليل على ذلك،  نحن لا ندخن السيجارة كاملةً وإنما النصف، والآخر يذهب في الانتظار! يجب أن يحس الشاعر ليس فقط الصدى الذي يقع بعد الحدث وإنما الصدى الخفي قبل الحدث ايضا!! مثلما تتوقع الحيوانات وقوع الزلازل!
- هايدغر: الشعر، “هو تقديم الهدايا، الأساس والبداية. هذا لا يعني فقط أن الفن له تاريخ! ولكن هذا يعني أن الفن هو التاريخ نفسه! إنه يضع أسس التاريخ “.. بهذا المعنى، رُسمت اللوحات الشعرية في الستينات من القرن الماضي للمستقبل أسسا روحية إلى يومنا هذا، بواسطة الاستعارة، الإيقاع، والبحث عن بنية لغوية جديدة تعارض الصورة النمطية للنظام. أتوقع الشعر هو فوضى! لكنهُ يسعى إلى البناء. الشعر ثورة فكرية
 حقيقية.
 
الزائر الأجنبي أهم من العبقري
سأل اندريه: منْ شوبنهاور؟
-  الفلسفة العقلانية هي أسنان بلا عصب! شوبنهاور هو العصب الرئيس!
 
* ما مدى أهمية اللغة عند هايدغر؟
- اللغة تخلق الإنسان!
قال اندريه:
حينما وصلت إلى دار الكتاب، أوقفتني امرأة قصيرة تشبه القزم ذي الشعر النحاسي الذي يرتدي سراويل الدمية وقالت: أنا ريناتا أستاذ التاريخ في جامعة فرايبورغ. رأيتك طالبًا مع هايدغر ذات يوم. بصراحة، لم يكن مهتمًا جدًا بنا. ركضنا لننظر إليك، بصراحة الزائر الأجنبي أهم عندنا من العبقري
 المحلي!!
 
الوجود والوقت
ومارتن هايدغر، فيلسوف ألماني ارتبط اسمه بالوجودية، على الرغم من جهوده الكبيرة للبقاء بعيداً عنها. كان لأعماله تأثير كبير في مجالات واسعة مثل الأدب والفلسفة واللاهوت والفن والعمارة والذكاء الاصطناعي والثقافة الأنثروبولوجيا والتصميم والنظرية الأدبية والنظرية الاجتماعية والنظرية السياسية والنظرية النفسية والعلاج النفسي، وولد هايدغر في مسكيرش بألمانيا، لوالديه فريدريش هايدغر ويوهانا كيمبف، وعاش في بيئة ملتزمة بالكثير من المعتقدات الدينية
 الصارمة. 
ودرس بين عامي 1909 و1911، اللاهوت في جامعة فرايبورغ، ثم غير موضوع دراسته إلى الفلسفة، وابتعد عن الكاثوليكية لأن المعتقدات ووجهات النظر التي كان قد توصل لها في تلك الفترة، كانت بعيدة كل البعد عن الكاثوليكية مما جعل التزامه بها أمرا غير منطقي
 أبدًا.
حصل على درجة الدكتوراه بعد الانتهاء من أطروحته في علم النفس، المستوحاة من الفلسفة التوماسية الجديدة، وهي فلسفة متأثرة بأفكار توماس أكويني، والفلسفة الكانتية التي تحيي أفكار العالم إيمانويل كانت. كما عمل كمحاضر خارجي، قبل التحاقه بالجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى.بعد العمل كمدرس مساعد لإدموند هوسرل في جامعة فرايبورغ، وفي عام 1927، نشر هايدغر كتابه الأول الوجود والوقت، وبعد عام من نشره أصبح أستاذًا للفلسفة في الجامعة نفسها.ومن أهم كتبه على جوهر الحقيقة 1930، وأصل أعمال الفن 1935، ومقدمة في الميتافيزيقيا 1935، وبناء مسكن التفكير 1951، توفي عام 1976 ودفن في مقبرة مسكيرش بجانب والديه
 وشقيقه.