في قراءتي للرواية الإنجليزية، أجدني أمام شخوص متلبسين بكبر وسطوة أو سيادة، ويمارسون نوعاً من التسّيد المعرفي والاجتماعي، مثل اولاء تكاد لا تخلو منهم رواية من كلاسيكيات الأدب الانجليزي، فنجد بعضاً من أولئك الشخوص المتسيدين في أحوال معاناة وأحوال سيئة مربكة، دائما هناك محنة اجتماعية ضمن علاقات أسرية أو علاقات عمل، تجارة، خدمة أو صناعة .
حسنأ هذه طبيعة بلد ابتدأت فيه مشاريع صناعية، صار يتحول إلى بلد صناعي، كما تتقدم فيه العلوم لكن مع ممارسات إقطاعية! إقطاعية من حيث التحكم والسطوة والتهديد وهنا يسود الأجواء الأسرية وأجواء العمل ما يوجب الخضوع مثلما يوجب الالتزام أو إطاعة كل تفاصيل الخدمة، هذه الحال –التسيّد والخضوع – تضع الطرفين في محنة دائمة تنتقل من جيل إلى جيل، فالطرف الأول –الأسياد- أو أصحاب السطوة يقرأ، يتصرف، يتكلم، يتساهل مع من هم أو من هو من دونه، بمقتضى ما تتطلبه النبالة واستمرار التفوق، حتى إذا توافرت المعرفة هنا، لا تغير شيئا من « قواعد» أو « عادات « .... أو « موجبات « السلوك مع من يراهم من دونه وتبعاً له، بعض هؤلاء الأسياد أو المتسيدين، أصحاب معارف وثقافة لكن المعارف والثقافة تنحسران أمام متطلبات استمرار الهيمنة ومظاهر والتزامات النبالة فهو هنا يخسر فعل الثقافة وفعل المعرفة وجمالهما. الطرف الثاني، الذين هم أسرته، عماله، أو خدمه، يخسرون ما قدمه عصرهم، فهم تحت حكم أخلاقيات، أو سيطرة سادة جدد، لكن بخضوع لسلوك الإقطاع الذي ارتحل من سنين.
لا أولئك بفظاظة وعتو الإقطاعيين الروس ولا هؤلاء التابعون يشبهون المدقعين هناك. هناك إقطاعيون نبلاء كبار. هنا متحضرون، بلا إقطاعيات مادية ولكن إقطاعية أخلاقية وتمسّك «مدني « بروح النبالة.
لا نستطيع و لا نريد لوم هذا ولا ذاك . الطرفان يعانون « لا صواب « الحال و لا» معقوليته»، والطرفان يعانون انفصاما أخلاقياً وانفصاما روحياً، وناس الطرفين يضيعان المعنى ويتشوه في الحالتين ويمسخ قسراً مذاق الحياة، وهذا يشعرنا بأن الثقافة هنا طارئة وأن التحضر يتمثل ظاهرياً بعلائم تسلط وزهو اجتماعيين وحتى إذا « صحوا « وتقربوا من تابعيهم الأدنين، فبتكرم وعطف إقطاعيين.
المشكلة، وما يعنينا أساساً في هذا الكلام، هي أن الطرفين يواجهان إشكالا، الجميع تتحكم بهم الشكليات والمراسم أو التزامات التعالي والتزامات الخضوع، شخصيا وقد حضرت، شهدت بعضا من هذه الأجواء، وهي لا تزال حتى اليوم، لاحظت الزيف في مقاطع كثيرة، من زهو وتعالي «البوسBoss “ “ أو “ الريّس “ إلى الإدارة والى لحظات تبادل الأنخاب في الحفلات، ثمة لا حقيقة، لا أصالة و تمثيل! تفسير الظاهرة بالنسبة لنا، هو هذا التضاد، هذا الاختلاف واللا انسجام، بين الثقافة المكتسبة والواقع الراسخ “بثقافته” الموروثة . وحين نصل الى هذه النقطة نجد أنفسنا في دائرة الفحص، وأننا في ذلك التضاد، هنا يقع الشبه . فنحن ايضاً نحمل ثقافة أو قراءات كتب، و نعايش واقعاً بما ورث وبما هو عليه، وهو هذا سلوكنا مع من هم معنا في العمل ودوننا موقعاً، ومع الأسرة وهيمنة الرجل – الأب.
هنا يتوجب تفهّم الحال لا الاكتفاء بإدانته، وليس المطلوب هو تقليل الشأن او الانتقاص فواحدنا جَهدَ في اكتساب معارفه وامتلاك ثقافته وظل محكوماً بما رسم له. هو سليل أسرة ومجتمع تحكمهما روح الإقطاع، مثلما تتحكم فيه ظروف العيش المحكومة أيضا بذلك، سواء كانت في دائرة رسمية، او ورشة عمل وهيمنة الاسطة، أو لدى مالك مخزن في السوق، وماذا يفعل إن كان مثقفاً لكن في حال تعطيل أو ازاحة فعل الثقافة او منعها من الحضور العملي، حين تصدها تراكمات و مصدات راسخة اكتسبت احتراماً بل قدسية تستوجب الدفاع عنها؟ لذا يعيش المثقف بما تحقق لسواه، بما يقرأ عنه، وما يحلم به غيره ويتمناه، وفي أحوال كثيرة يخدع نفسه، وكل شيء واضح لا يخفى. يبقى السؤال الآخر، المربك قليلا، هل هو مُمتَحن حقاً، أم هو يرتاح لما ورث، ويريده يبقى؟ لا أجيب عن هذا السؤال، ولكني أقول، في جميع الأحوال هو أنموذج لمن يريد نبالة غير متحققة أو من يحاول التعويض عن نبالة كانت.