توفي الناقد الكبير طراد الكبيسي في الغربة، وترك وراءه ما يقارب العشرين مؤلفاً في النقد والشعر. وبالرغم من أنه كتب الشعر ونقد الرواية، فإنه يعدُّ ناقدَ شعرٍ بالدرجة الأولى، ولا نغالي إذا قلنا إنه يقف على رأس نقاد الشعر في العراق. بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003 بعدة أشهر خرج طراد من العراق، قاصداً الأردن ثم ارتحل إلى بريطانيا، وقد سألتُ في إثناء رحلة لي إلى الأردن الشاعر حميد سعيد عنه، فقال إنه لا يدري عنه شيئاً سوى أنه كان في الأردن، وعاش كآبة عميقة، ولا يدري أين هو الآن.
إلا أن المرحوم طراد دفع إليَّ بما يشبه المذكرات قبل سفره إلى خارج العراق، مكونة من قصيدة نثرية طويلة دعاها (الأعمال والأيام) مع عنوان ثانٍ هو (سيرة ذاتية ناقصة) وقد وضع في نهايتها تاريخ وضعها وهو عام 1997. وكأني بالراحل ائتمنني على سيرته لنشرها بعد موته!
وقد قدّم للقصيدة الملحمية (الأعمال والأيام) بسيرته منذ أن وُلد في قرية (الحِسنيّة) على بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة هيت الشهيرة وحتى تاريخ كتابة المذكرات، وفيها يظهر أنه ولد في عام 1937 بخلاف التاريخ الرسمي وهو 1933، ودرس في الكتّاب جزء (عم) ولم يحفظ منه ـ كما يقول هو ـ سوى سورة الفاتحة ثم انتظم في المدرسة الابتدائية في هيت أواخر 1939ـ 1940 وهو ما يتضارب مع قوله إن ولادته عام 1937، إذ المعروف أن الطالب ينتظم في الابتدائية وعمره لا يقل عن ست سنوات.
وبعد أن أكمل المرحلة الابتدائية انتقل إلى ثانوية الرمادي، ويبدو أن تفتح شخصيته وبروز قدراته الأدبية قد ظهرا منذ دراسته الثانوية، إذ تعرف على عبد الوهاب البياتي والشعر الحديث وعرف أيضا الشاعر غازي الكيلاني والكاتب يوسف نمر ذياب. أكمل دورة إعداد المعلمين ليعمل بعدها معلماً في مدرسة في هيت لمدة ثلاث سنوات ثم استقال.. وفي عام 1958 دخل كلية الآداب وتخرج فيها عام 1962 مدرساً للغة العربية، ودرّس في عدة ثانويات منها النعمانية والرفاعي. ونُقل إلى بغداد عام 1967، وفي عام 1974 انتقل إلى وزارة الثقافة والإعلام، ورأس تحرير عدة مجلات كما عمل في الملحقية الصحفية في بون والمركز الثقافي العراقي في لندن ومستشارا في المغرب ومديرا عاما لدار الشؤون الثقافية وكالة من 1991 حتى عام 1996 حين تقاعد من عمله الوظيفي.
تزوج طراد من زميلته الدكتورة وداد الجوراني وأنجب منها ولده عماد الذي فجع والداه بموته غيلة حين أطلق عليه لص النار في داره، وله من زوجته ابنتان إحداهما تعمل طبيبة في انكلترا.
له ديوان شعر بعنوان (ورقة التوت) وله ما يقرب من عشرين كتابا في النقد لعل أشهرها وأحدثها ثلاثية (المنزلات) وهي منزلة الحداثة، منزلة النص، منزلة القراءة. والكتاب واحد من الكتب النقدية المعدودة في الشعرية العربية ونقدها.
وقد ارتأيت إزاء صعوبة نشر المذكرات بالكامل حالياً أن أنشر بعضاً من مقاطعها لعلي أكون قد أديت الأمانة، وتبدأ (الملحمة) بالفصل الأول (في الحسنية) ومنها:
«بينما يفقس بيض السعلاة
يولد طفل في الفرات
هكذا ولدنا وسط الماء
وتحت نخل وشجر ونواعير
وفي بيت كبير،
مقسوم قسمين:
قسم للدواب
وقسم للبشر والتمر والذباب.
لماذا ينعق هذا الغراب؟
قُتِلَتْ (شمسة) قتلها محمود
قُتل محمود. القاتل مجهول
ومات احمد بالسُّل. تحت شجرة المشمش الكبيرة، مُذْ هجرته
جميلة، وحملوه على نقالة إسعاف.
ثم تلي ذلك مقاطع تبدأ بكلمة اذكر، ليذكر الكاتب الكثير مما عايشه في بيئته ومن ذلك ذكره للناعورة، الماكنة المشهورة على الفرات:
اذكر كيف يفرش النجار الدولّاب
يصنع ناعوراً من أخشاب،
يحمل عنا حزننا:
ينعي عمراً يفوت
أو ميتاً يموت
ولعل ناعورة من النواعير المتبقية في هيت على الفرات تبكي الآن ابن مدينتها طراد فواز الكبيسي.
ويشير الكاتب إلى انه تأثر في كتابة ما دعاه بـ(النص) بمرجعيات عديدة كملحمة جلجامش والأدب البابلي، ومحيي الدين بن عربي، وكذلك مؤلفات الرازي والغزالي ولسان الدين بن الخطيب (ومجنون اليسا) لارغون ومقطع من قصيدة عن لوحة (الغربان) لفان كوخ.
رحم الله طراد الكبيسي، فقد كان صمته ومن ثم موته خسارة كبيرة للأدب والنقد الحديثين في العراق. وسأعمل جاهداً على نشر النص بالكامل لكي أؤدي الأمانة التي وضعها المرحوم في عنقي.