البناء الملحمي في تجربة زعيم نصار الشعريَّة

ثقافة 2020/12/06
...

فتحي عبد الله
 
تمثل تجربة زعيم نصار في ديوانه الفريد (الحياة في غلطتها) أحد أهم الاقتراحات الشعرية في تطور قصيدة النثر، لأنها أدركت منذ البداية أهمية الشكل في كتابة النص، كما جاء في سياقها الأول، وهو الشعر الفرنسي فقد اعتمد الشاعر السطر الكامل في موجه التقطيع واعتمد الجملة في موجهة الصوت ما خلص تجربته نهائياً من الغنائية التي تورط فيها معظم شعراء قصيدة النثر حتى الآن.
واعتمد كذلك على المعرفة ودورها في بناء النص وهي معرفة كلية تجمع بين ما هو يومي وما هو عقلي رفيع، وان كانت السيادة في البناء للثقافة الرفيعة وهي في معظمها حديثة، وبعضها ينتمي للميراث الإنساني القديم، وقد جاء في النص لأصالة الشاعر وانتمائه الروحي وان اخذ شكلاً جديداً لا ينفصل عن الواقع المعاش.
وتقوم تجربة الشاعر في مجملها على الإحساس بالكارثة التي حدثت في المجتمع  وتحوله دون إرادة منه إلى كائنات عجيبة وغريبة، لا منطق في أفعالها  انه العبث وان شئت فإنها الحرب بكل اهوالها، ولكي يستطيع الشاعر القبض على تلك التجربة المؤلمة والقاسية التي دمرت كل شيء اعتمد رؤية كلية لما جرى واستطاع أن يكشف عن عناصرها الفاعلة بل ويفضح المتواطئين معها  في لغة عنيفة وحادة ولكي يتخلص من تلك الكارثة وضغوطها المتنوعة لم يجد خلاصاً الا في تجربة الحب،  فالموت دائما ما يستدعي الحياة في أبهى صورها. 
 
- كيف كتب الشاعر تلك التجربة؟
أولاً: تخلص تماماً من اللغة السائدة وبحث عن لغة جديدة تناسب التجربة وهي لغة حادة وعنيفة ومكثفة وبمفردات قد تخلصت من دلالتها القديمة، ووصل إلى ذروته في بناء جملة تكاد تكون جديدة على السياق الشعري، كما أن هذا العالم الشبحي والضبابي قد دفعه للمغامرة  وأصبحنا أمام هيكل لغوي له قوام فريد و طقوس خاصة تصل إلى حد القداسة في بعض الأحيان التي يتقاطع فيها معه موروثه الروحي مثل:(في الطريق إلى حانة الضباب إلى حانة الصحو، إلى فتيان القلعة، محو هناك، لا طريق في الميدان، لا طريق له، الطريق لقيثارة ضائعة سوى العناكب التي تمتص ضياء الكلام)
ثانياً: الخيال الكلي الذي رأى التجربة كلها مجرد  عبث وفوضى، فالوقائع اليومية لا أهداف لها وتقع بشكل اعتباطي تدمر اكثر ما تخدم الجماعة البشرية، وقد استخدم الشاعر كل أنواع المجازات في تلك التجربة وان كانت السيطرة والهيمنة لبلاغة المشهد الذي يقوم الجمع بين المتناقضات بين الحي والميت بين المطلق والنسبي بين الموروث المقدس والآني الذي لا قداسة له أو المدنس أو  وضع الأشياء في حالة تجاور حي وفعال ينتج حالة جديدة، وهناك تبادل خلاق بين ما هو استعاري وما هو كنائي حسب ضرورات النص طوال الديوان وتلك هي الامثلة:
(في جملة من نوم حياتي وجدتني بصحبتها فوق احد الحقول، ومعنا ثلاث كلمات، فتعجبت كيف لكلمة تسير فوق الهواء وانا أسير قربها بخطى مشدودة لأنوثتها، غبت في برق عينيها  العميق، غبت وتهت َمرة أخرى وكان مسيري قرب زرقتها مختلفا، كنت متلاشيا تحتها، كأني زورقها الذي  يحمل العاصفة)
ثالثاً: لقد بنى الشاعر ديوانه بناءً ملحمياً، وبتسع قصائد طويلة، تتكون من مراكز متعددة، ودوائر كبرى وصغرى، ورتّبه بشكل عقلي محض، إذ أتى بنصوصه الحديثة أولاً ثم ما قبلها حتى وصل إلى بدايات التجربة، وهذا هو الزمن الخارجي، أما الزمن الداخلي للنص فهو متداخل طوال الديوان، ويكاد يكون الاحساس واحداً،  والفروق قليلة في الأداء الشعري، ولا نستطيع أن نميز الا تجربة الحب التي جاءت عنيفة أيضاً، وبنفس الأداء اللغوي العالي وان حملت في طياتها حنيناً متكسرا وعواطف شديدة الحضور .
أن تجربة زعيم نصار من أهم تجارب قصيدة النثر: 
أولاً:  لأنها حققت شروطها كاملة.  
وثانياً: طريقة الأداء الفائقة التي تجاوزت جميع الأنماط.  
وثالثاً: عالميتها واحساسها الكوني الذي يتجاوز الأعراق والثقافات، فهي تجربة قوية وفريدة ولا يمكن تكرارها بسهولة.