الثقافة والمعرفة

آراء 2020/12/06
...

 عطية مسوح
 
كثيراً ما تأتي أحكامنا وتصنيفاتنا غير دقيقة، فنطلق على الشخص الذي تدهشنا كثرة المعلومات المحتشدة في ذاكرته والحاضرة في ذهنه وأحاديثه صفةَ «مثقف». ويتصدر مثل هذا الشخص أحياناً مجالسَ المثقفين والمتعلّمين، باهراً إيّاهم بغزارة معلوماته حول موضوعات أدبيّة أو علميّة أو تاريخيّة أو فنيّة. فهل هذه هي الثقافة حقّاً؟ وهل المثقف هو من يمتلك الكثير من المعلومات؟
لا أظنّ الأمر كذلك، لا سيّما في أيّامنا، أي بعد أن أصبحت المعلومات على قارعة الطريق، وبعد أن فتح غوغل وغيره خزانة المعلومات أمام الطامحين إلى المعرفة في كلّ مجال. الثقافة ليست مجرّد معرفة، والعقل ليس مجرّد خزّان للمعلومات. الثقافة، كما أرى، ثلاثة جوانب متكاملة، الأوّل أساس، والثاني شرط، والثالث 
غاية.
الأوّل هو المعلومات والمعارف. وهو أساس لا تقوم الثقافة إلاّ عليه، ولا يكون المرء مثقّفاً إلاّ به. وكلّما كانت المعلومات لدى الشخص أكثر وأغزر كانت ثقافته أعمق 
وأوسع. 
إنّ السعي للحصول على المعارف (المعلومات) هو ديدن المثقّف سواء أكان في بداية الطريق أم 
متمرّساً. 
وإذا كان طريق امتلاك المعلومات يزداد سهولة كلّ يوم باتّساع المجالات التي تغطّيها شبكة المعلومات الإلكترونيّة، فإنّ الكثير من الناس يمكن أن يدخلوا عالم الثقافة في هذا الحيّز الأوّليّ، إذ يحصلون على المعارف، أي على المادّة الأوّليّة للثقافة. 
لكنّ هذا لا يكفي لجعل المرء مثقّفاً، فالمعلومات الغزيرة قد تظلّ في ذهن من يجمعها مفكّكة مبعثرة لا روابط بين أوصالها، وقد تزداد لكنّها لا تتزايد، تزداد عن طريق القراءة ولكنّها لا تتزايد بالتوالد، أي بآلياتها الداخليّة الذاتيّة، فلا يستطيع حامل المعلومات أن يستولد منها معلومات جديدة، ولا يستطيع أن يولّد فكرة من فكرة أو مجموعةِ أفكار.
هنا يأتي الجانب الثاني الذي يقوم على الأوّل، هذا الجانب هو شرط لتحوّل المعلومات إلى ثقافة، وتحوّل حاملها إلى مثقّف. إنّه: إدخالُ المعلومات في نسيج معرفيّ متماسك، أي نقلها من حال إلى حال أرقى، ووضع المعلومة في مكانها المناسب داخل منظومة المعلومات في ذهنه. بهذا تتحوّل المعلومات من بؤر متناثرة مفكّكة إلى منظومة 
معرفيّة. 
هكذا تأتي كلّ معلومة جديدة إلى مكانها وتحتلّ النقطة التي يجب أن تحتلّها في البناء المعرفيّ لهذا المثقّف، وبتحقّق ذلك سيقومُ على منظومة المثقّف المعرفيّة منهجٌ في التفكير والنظر العقليّ، ورؤى معيّنة لكلّ جوانب الحياة. وهذا ما يحمي المثقّف من فوضى التحليل وعفويّة تناول الأمور الاجتماعيّة والفكريّة.
أمّا الجانب الثالث، الذي قلنا إنّه الغاية، فهو: القدرة على استخدام المعلومات والمعارف في الحياة، وإبرازها في المواقف العمليّة، أي في السلوك تجاه القضايا الكبيرة أو الصغيرة التي تواجه المثقّف. 
ويعني ذلك بناءَ السلوك الشخصيّ على أساس ثقافيّ. ولعلّ هذا الجانب الثالث هو الذي أنجبَ مفهوم (المثقّف العضويّ) الذي كثر استخدامه في أواسط القرن العشرين، أي المثقّف الذي يضع ثقافته في خدمة الحركة الشعبيّة من أجل التحرّر 
والتقدّم. 
إنّ هذا الجانب هو الذي يُظهر السمات الأخلاقيّة والإنسانيّة للثقافة وحاملها.
وانطلاقاً من أنّ الجانب الثالث هو غاية الثقافة فإنّ سلوك المثقّف هو الصورة التي تقدّمها الثقافة 
للناس. 
غير أنّ المبالغة في جعل سلوك المثقّف صورة للثقافة توصِلُ إلى موقفين ضارّين، أوّلهما الحكمُ على ثقافة ما أو تيّار ثقافيّ أو فكر معيّن من خلال السمات الشخصيّة لحامليه، وهذا يعني الشخصنة الكلّيّة للثقافة، وهو مثلاً ما وقعت فيه الباحثة مرغريت ميد بتأكيدها أنّ «الثقافة المجرّدة غير موجودة، وأنّ الموجود واقعيّاً هم الأفراد الذين يحملون الثقافة ويبدعونها وينقلونها.» وثانيهما نفيُ الخصائص الثقافيّة المشتركة التي تمنح جماعة أو شعباً سمات عامّة في السلوك والتفكير. 
ومقابل ضرر المبالغة في جعل سلوك المثقّف صورة للثقافة، نجد ضرر المبالغة في جعل الثقافة أنماطاً، لأنّ هذا يقرّب الثقافة من 
الآيديولوجيا. 
أي إنّ إغفال فرديّة الثقافة وتغليب العامّ على الخاصّ هو الوجه المقابل لإغفال السمات الثقافيّة العامّة المشتركة، أي تغليب الخاص على العام، وكلاهما خطأ منهجيّ في معالجة مسألة الثقافة.
وفي معرض بحث علاقة الثقافة بالمعرفة، من الضروريّ التطرّق إلى علاقة التخصّص العلميّ 
بالثقافة. 
فإذا كانت العلوم كلّها تنحو نحو المزيد من التخصّص، ألا يؤدّي ذلك إلى اتّساع الفجوة بين التخصّص والثقافة العامّة؟ ألا نجد مبدعين مرموقين في المجالات التقنيّة يفتقرون إلى الحدّ المتوسّط أو المقبول من المعرفة في جوانب الثقافة العامة كالتاريخ والأدب والفنون والفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها؟ هل يمكن القول مثلاً: إنّ الإبداع في مجال علميّ تخصّصيّ دقيق يُسهم في تنمية المجتمع ولكنّه يبعد صاحبه عن الثقافة العامّة؟ وكيف يمكن لمبدع من هذا النوع أن يكون مثقّفاً؟ هل تعيدنا هذه المشكلة إلى قول أسلافنا: (المثقّف هو من يعرف كلّ شيء عن شيء وشيئاً عن كلّ شيء)؟ وهل هذا ممكن لمثقّف اليوم؟ قد يكون حلّ هذه المشكلة فرديّاً وذاتيّاً، وذلك في أن يعطي المتخصّص الثقافةَ العامّةَ جزءاً من وقته واهتمامه، ليصحّ القول عنّه إنّه تخصّصيّ 
مثقّف.