ولادة مجهضة لبذرة مثقف ديني عراقي
ثقافة
2020/12/11
+A
-A
د. عبدالجبار الرفاعي
وُلِدت بذرةُ «المثقّف الديني النقدي» العراقي بولادة «وعّاظ السلاطين» لعلي الوردي، وغذّاها ببعض الأفكار في أعماله الأخرى، غير أن هذه البذرة وُلِدت ولادةً مجهضة، ولم يكتمل تشكّلُ هذا النوع من المثقّف حتى اليوم، المثقّف الذي أبصرت نواتُه النورَ في أعمال الوردي، بفعل افتقار المجتمع العراقي للشروط الضرورية لتكوّنه وتكامله. لبثت تتعثر محاولات تكوّنه سنوات طويلة، وإن كنا نقرأ اليوم كتاباتٍ عراقية تتسلح بعقلانية نقدية، تؤشر لبدايات تكوّن «مثقّف ديني نقدي».
انصرف الوردي تدريجيا عن الكتابة في الموضوع، واهتم بدراسة وتحليل قضايا مجتمعية لا تتصل مباشرة بالدين. بعد ان أجهضت ولادةَ هذا النوع من المثقّف القيمُ التقليدية الراسخة في العشيرة، ونمطُ التدين الكلامي الفقهي الذي تنتجه معاهدُ التعليم الديني.
لم يجد المثقّف الديني النقدي الشروطَ الضرورية لتكوينه وتطوره، في مجتمع مازال ينتمي للماضي أكثرَ من الحاضر، وللتراث أكثرَ من الحداثة، وللقبيلة أكثرَ من الدولة، وللخرافة أكثرَ من العقل، وللتفسير الغيبي للظواهر الطبيعية أكثرَ من التفسير العلمي، وللموت أكثرَ من الحياة.
روافدُ تشكّل هذا النوع من المثقّف مركبةٌ مزدوجة، تعتمد نمطين من المنابع: منبع تراثي أولًا، إذ لا مثقف ديني بلا دراية علمية بالتراث الديني. ومنبع حديث ثانيًا، إذ لا مثقف ديني بلا خبرة جادة بالعلوم والمعارف الجديدة.
علي الوردي يمتلك تكوينًا أكاديميًا رصينًا في علم الاجتماع، ولديه خبرةٌ واسعةٌ بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفلكلوره، وتاريخه في القرنين الأخيرين، غير أنه كان يفتقر لتكوينٍ مماثل في الفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والفقه وغيرها من علوم الدين، لذلك كانت أحكامُه تتموضع في تمثلات الدين المجتمعية والفردية، وقلّما تلامس البنيةَ التحتية والأنساقَ الاعتقادية العميقة، بوصفها المنابع الأساسية التي تبتني عليها وتتغذّى منها تلك التمثلات.
يعتمد تشكّلُ المثقّف الديني النقدي على البيئة الحاضنة بمختلف مكوناتها، وأهمها: وجود “مجتمع معرفة”، فلن يتشكل المثقّف الديني النقدي مالم يتشكل مجتمعُ المعرفة، الذي يمثل البنية التحتية لتكون هذا المثقّف. في “مجتمع المعرفة” يسود وعيٌ نقدي ينطوي على عدمِ الارتياب من العلوم والمعارف الحديثة، وعدمِ تحريم الأسئلة الكبرى، وعدمِ منع التفكير الحرّ، وعدمِ تعطيل العقل الخلّاق الذي يقتحم المناطَق الممنوعة في التفكير، والذي يتخطى مدياتِ السقف المتعارَف عليه في المجتمع للرأي والتساؤل الجديد.
المثقّف الديني النقدي يتخذ العقلَ مرجعية، ولا يتردّد في النقد العلمي لمختلف المسلّمات والمفاهيم المتجذّرة والقناعات الراسخة. لا يخيفه اللايقينُ والشك، يعلي من قيمة العلم والتعليم، لا يؤجل التفكيرَ بأيّة قضية راهنة، ولا تثنيه أيةُ ذريعةٍ عن فتحِ أرشيفات التاريخ المطمورة، ودراسة ما هو منسي ومهمَّش ومتكتَّم عليه فيها، والإعلانِ عن محتوياتها وغربلتها مهما كانت. وعي المثقّف الديني النقدي يفضح المسكوتَ عنه في التراث، ويكتشف أنساقَه المضمرة، وأشكالَ السلطات السياسية والروحية وشبكاتِ المصالح المتنوعة، وآثارها في تكوين التراث وتكريسه واستمراريته، ويعرف مواطنَ القصور في دين الآباء، وعجزَه عن الإصغاء لإيقاع الحياة الجديدة.
يتميز هذا المثقّف باستيعابه للتراث، وخبرته براهن الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، واهتمامه بدراسةِ الدين وأشكالِ تعبيراته المختلفةِ في الحياة، وتحليله العلمي لتمثّلاته في الحياة الشخصية والاجتماعية. إنه مثقفٌ قادر على تقديمِ فهمٍ نقدي للتراث، فهمٌ لا يتحدّث فيه الماضي للحاضر، ولا تترسّخ فيه سطوةُ الآباء على الأبناء.
المثقّف الديني النقدي ليس مرادفًا للمتكلم القديم أو الفقيه، ولا بديلًا عنهما، بل يمكن أن يكون هذا النوعُ من المثقّف أحيانًا متكلمًا جديدًا، وفقيهًا مجدِّدًا. المثقّف هذا مفكرٌ حرٌّ، وليس مبشرًا أو داعيةً أو مناضلًا أو فدائيًا. مؤمنٌ برسالة الدين الروحية والأخلاقية والجمالية، ذو عقلٍ حرّ، لا تأسره المعتقداتُ المغلقة، وليس مسكونًا بأدلجة الدين. يحرص على فهم ونقد ما يتفشّى في مجتمعاتنا اليوم من قراءةٍ مغلقة للنصوص الدينية، كما يعمل على نقض القراءة الفاشية المتوحشة لهذه النصوص. يسعى لاكتشاف القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في القرآن الكريم، وما تتضمنه النصوصُ والمعارف الدينية من آثارٍ ذات مغزي كوني، وبصماتٍ مضيئة في الحضارة الإسلامية، يهتم بالكشف عن القيم السامية، والتشديد على ضرورة حضورها في حياة المسلمين الخاصة والعامة.
لا ترتهن عقيدةَ هذا المثقّف مقولاتُ متكلمي الفرق، وما تدعو إليه من نبذٍ للمختلِف في العقيدة والبراءة منه. لا يرى هذا المثقّف ما تراه كلُّ فرقة من احتكار النجاة لمن ينتمي إليها خاصة، ولا تأسر حياتَه فتاوى لا تعترف بتساوي حقوقه وحرياته مع حقوق وحريات الشركاء في الوطن المختلفين في المعتقد، ولا تهدر حاجتَه للجمال فتاوى لا تكترث بالذوق الفني، وتُحرّم تذوقَ تجليات الجمال في العالَم، لأنه يعرف أن تلك المقولات والفتاوى اجتهاداتٌ وتأويلاتٌ للنصّ المقدّس تنتمي للزمان والمكان والأفق التاريخي الذي أسهم بإنتاج مقولات المتكلم وفتاوى الفقيه، وليست نصوصًا ترقى إلى النصّ المقدّس.
المثقّف الديني النقدي خبيرٌ بالتراث ومسالكه المتنوعة، متشبعٌ بمناخاته، حفّارٌ لطبقاته العميقة، متوغلٌ في مدياته القصية. يفترض أن يكون مكوَّنًا تكوينًا جادًا في العلوم والمعارف الحديثة، يقرأ التراثَ والنصوصَ الدينية بمناهج التأويل وهذه العلوم والمعارف، من دون وجلٍ ولا ارتيابٍ ولا قلق.
يمارس هذا المثقّف الاستيعابَ النقدي للتراث، والعلوم والمعارف، بلا أن يستسلم للتراث، ولا يتقبل أية نظرية جديدة من دون أن يتعرّف عليها ويتحقّق علميًا منها. يتمسك بحرية البحث العلمي، لا يمنع أيَّ تساؤل عقلي، لا يرى فهمَه نهائيًا، لا يسقط في القراءة الاسقاطية، ولا يعتقد أن قراءته وتفسيره للنصوص الدينية هي القراءة والتفسير الأخير.
كتابات المثقّف الديني النقدي تفتح الأسئلةَ المغلقة، لن تقدّم إجابات نهائية لكلّ سؤال. إنه ليس متكلمًا قديمًا ينتج مقولات اعتقادية مغلقة، مَنْ يعتقد بها ينجو ويكتب له الخلاص في الدنيا والآخرة، ومَنْ لا يعتقد بها يكون من الهالكين.
المثقّف الديني النقدي غيورٌ على الحياة العقلية للناس، يحرص على إيقاظ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين. تنشد رسالتُه: إيقاظَ العقل، وإحياءَ الروح، وإثراءَ الأخلاق، وتربيةَ الذوق الفني. لذلك يعمل على حماية العقل من أن تستهلكه الخرافات، والروح من أن يستنزفها تقديسُ غير المقدّس، وأن تستلبها عبوديةُ الآلهة الزائفة، وما تفضي اليه من أوهام وتشوّهات في رؤية العالَم، ويحرص على الكشف عن رسالة الدين الحقيقية، بوصفه نظامًا لإنتاج معنى جميل للحياة.
يهتم المثقّف الديني النقدي ببناء تديّن عقلاني، يُعلِن حدودَ ما هو دنيوي وما هو ديني، ويرسم المجالَ الخاص بكلٍّ منهما، ويُعرِّف بالمجالاتِ التي يتحقّق فيها الدنيوي، والمجالاتِ التي يتحقّق فيها الديني. كما يهتم هذا المثقّف بالسعي لبناء تديّن أخلاقي، مقابل ما يتفشى من تدين شكلي زائف.
همومُ المثقّف الديني النقدي ترمي إلى بناءِ الإيمان وتمتينِه، لا تبديده وتهديمه، والعملِ على حمايةِ الأجيال الجديدة من القلق والتمزّق والعبثية والضياع، وفقدانهم لمعنى الحياة.
يهمّه تكريسُ الحياة الروحية، وتنميةُ الحياة الأخلاقية، بوصفها تجربةً للحياة يعيشها، وتجربةً للحقيقة يتذوّقها. يفترض أن يعيش حياةً روحية وأخلاقية يجسدها فعلُه قبل قوله، وإلا فلن يكون لكلامه أثر عملي
مالم يكن سلوكُه مرآةً للقيم التي يتحدث عنها.