ابراهيم سبتي
رواية “الوجه الآخر للضباب”لكريم صبح، تتمركز حول تضادين يحاولان سحب أحدهماللآخر بقوة جذب تكمن في دواخلهما. “روزالين” الابنة الوحيدة للأب السوري ثروت وللأم الروسية كريستينا ـ لولاها لما عرفنا أحداث الرواية.
هي فتاة تعاني من مصير مؤلم وقد يكون مجهولا ربما لأنها أيقنت بأن الوطن البديل (سوريا) بلد الأب، ليس هو البديل المناسب لها لاسيما وأنها قد عاشت كل طفولتها وبعضا من مراهقتها في وطن والدتها (روسيا) وهناك أسبغ عليها أخوالها الأربعة وجدها اللواء وجدتها “الكونتيسة” كل الحنان والعطف، وخاصة بعد موت أمها الأنثى الوحيدة في الأسرة. هم ينظرون إليها كما كانوا ينظرون لابنتهم الوحيدة
كريستينا.
تظل “روزالين” تعاني عذاب الانتماء لوطن لا يمثل لها شيئاً سوى والدها الذي راح يقف بوجهها أحيانا مع زوجته وأولادها وخاصة وهم يسدون النصائح والتعليمات لأنّ البيئة اختلفت عليها، فهي تعيش الآن في بيئة عربية محافظة وليست روسيا مع محاولات الأب المتكررة (لم يفلح في إجبار اخوتي على معاملتي معاملة، يرضاها دينهم، لسبب لا غيره:أمهم اللئيمة) ص 109.
وخاصة أنها تتذكر حلاوة حياتها في بيت جدها حيث ولدت. تكمن عذابات “روزالين” بكونها فقدت أكبر سد حصين في حياتها وهي أمها، ماتلبث أن تختلي بنفسها لتمارس بكاء خفيا عليها. ولكنها قررت أن تكون بجانبها حين فكّرت في حفر قبر وهمي بمباركة الأب في مقبرة المدينة، وهكذا صار لها مزار عند الاشتياق.
ما أثارني صراحة هو التجوال الباذخ للأمكنة وخاصة في مدينة بطرسبورغ وذكر اسماء الشوارع والقصور والأمكنة التي لا يمكن أن يكتبها إلا العارف بها،لأنها تشكل ثقافة مكانية يتطلب اظهارها في هكذا تدوينات الإلمام والذاكرة الطرية.
وتكمن أهمية ايراد هذه المسميات لإثبات أن الكاتب ينهل من قاموسه المعرفي كما أنه مولع بالتاريخ الذي يقف خلفها وخاصة نحن نبحر بين ثلاثة ازمان لعب التاريخ لعبته السردية والفنية فيها.
فكان الأول هو ذكريات الاتحاد السوفيتي وما أورده من استذكارات عبر مشاهد مكملة للتدوين، والثاني بعد تفككه وبروز روسيا وريثا شرعيا له، أما الثالث فهو الأزمة السورية التي تؤرخ لواقع مأساوي معاصر.
والمفارقة هو تدخل روسيا فيها (ربما أنقذت وطني من التفكك لكنها لم تنقذ حبيبي بعد دخول قواتها بيومين) ص 160.
“روزالين” هي التاريخ التائه الذي يفتقد للجذور الغائصة في أعماق الأرض حين ينتزعها “ثروت” الأب من الواقع الروسي إلى واقعه الغريب عنها والمأساوي في ذات الوقت. فمثلت أزمة كبيرة هي انتماء حقيقي لا يمكن لأي إنسان أن يجد له بديلا مهما كانت الأسباب التي تؤدي به لترك وطنه الأول (ألوم جدي وجدتي وخالي فلاديمير ويفغيني حتى اللحظة، لكنني لا أنكر معارضتهم رحيلي إلى “وطن بديل”ص 106.
ينتهج الروائي هنا نهجا يتراوح بين رومانسية الأحداث مرة وسياسيا مأزوما مرة أخرى.. فهو بذلك يمثل تيار الوعي المنبثق من وقائع كان عليه أن يتخذ قراراته بغير ما يشتهي وخاصة وهو يعشق “كريستينا” التي أنجبت له “روزالين “بسرعة بالغة حتى أنه لم يخبرها عن أسرته في سوريا، وكأنه أراد أن يستحوذ عليها ويتملكها كدرة ثمينة لا يريد فقدانها ومهما كانت المبررات لـ “ثروت” وهو يتخذ قراره، وكأني أتخيل بأن الروائي أراد القول بأن الرجل الشرقي تختفي عنده ملكة التفكير عندما يقرر شئياً ويرمي كل شيء خلف ظهره خاصة أنه في ديار الغربة.
وهكذا انجبت له “روزالين” التي ظلت تخبرنا عن مجريات الأحداث ونتعرف خلالها على حجم آلامها وهي تعيش في بيئة مختلفة في كل شيء.. فمنذ الوهلة الأولى، نعرف بأن الروائي يعشق التاريخ عشقا فنيا استطاع توظيفه في روايته. فالتنقل بين ثلاثة أزمنة وأمكنة عدة (موسكو، سانت بطرسبورغ، دمشق، اللاذقية وغيرها) يشي بكون الأحداث تتهافت على تلك الأماكن المتعددة ومثلها للزمن الذي أخذنا إلى بعض مدونات الحرب العالمية الثانية في مشهد بني بدقة (الجندي والد بوتين) وهو ينقذ زوجته من الدفن الجماعي وما زالت فيها الحياة، أو عندما تبدو “كرستينا” مبهورة بصديقها السوري (تحول إلى زوجها) في تنقل ذكي
للزمن. كتب الدكتور كريم صبح روايته (الوجه الآخر للضباب) بعد مجاميع قصصية عدة، أخذت مكاناً مهماً في خانة الإصدار القصصي العراقي، وهاهو يلج اليوم عالم الرواية للمرة الأولى، فوجدته مختلفاً تماماً عن عالمه القصصي.. أمر طبيعي أن يختلف السارد الحاذق وينوع أدواته وهو يدخل عالم الرواية الفسيح وملهبة الأحاسيس والمشاعر والسرد بنفس طويل ومتقن.