صادق الطريحي
قبل أن تبدأ أحداث هذه القصّة بقليل اختفى القاص العراقيّ المغمور صاد بظروف غير غامضة، فقد شوهد من قبل بعض الصّيارفة، قبل ساعات قليلة من اختفائه، وهو يخرج من بنك بابل إخوان، الواقع في الزّاوية اليسرى لمدخل جادّة البنوك، في بابل العظمى، ونقلت وكالة أنباء رويترز عن روّاد المقهى المطلّ على دجلة في آخر الجادّة، أنّ أحد الأفندية قد شرب الشّاي قربهم، وكان يقرأ في كتاب صغير، ثمّ غادر مسرعًا بعد دخول بعض الشّقاوات إلى المقهى، وأضافت الوكالة أنّ صاد قد نسي كتابه (نوستوس) على المنضدة. وكتب المشاور القانونيّ للبنك في يومياته غير المنشورة، أنّ السيد صاد قد التقى الرّوائية عالية ممدوح (1944) في مكتبه صباح اليوم، الذي اختفى فيه، بعد أن قدّم نفسه لها بوصفه قارئًا لروايتها الأخيرة (التانكي) ووعدها أنّه سيكتب قصّة قصيرة يوظف فيها هذه الرّواية.
ولعل آخر ظهور موثق له هو على صفحته في (الفيسبوك)، إذ نشر رابط مقابلة أدبية مع عالية ممدوح، معلقًا عليه" يا إلهي العليم، لقد انبهرتُ ببحّة صوت هذه الالهة البغدادية المعاصرة، وشغفتني ملامحها الجميلة، ألاحظتَ أناقة ملابسها، وحركة اليديّن والأصابع، وهي تتحدث عن رواية (التانكي) وشارع التانكي!! ألم تستمع إلى النّبرة الجميلة لمخارج الحروف وهي تتحدث في قناة فرانس 24 عن الانتلجينسيا العراقية في هذا الشّارع، وكلّية بغداد، وتفاعلها مع المعمار العراقيّ، معاذ الآلوسي (1938) والمكعب، وبناء الرّواية، كم أتمنى أن أكتب قصّة قصيرة أضمنها انبهاري برواية (التانكي) وبهذا اللقاء القصير، فهلّا
ساعدتني".
ولأنّ هذه القصّة من نوع السّرد الوثائقيّ، وهي تستعين بالوثيقة لإعادة البناء الفنيّ، بحيث تصير الوثيقة جزءًا من التخييل، فقد راجعتُ البنك المركزيّ العراقيّ للاطلاع على مستندات بنك بابل إخوان، وأسماء المتعاملين معه، صعدتُ إلى الطّبقة السّابعة، حيث قسم الوثائق في البناية التي صمّمتها زهاء حديد (1950ـــ 2016) في الجادرية، ومن حسن حظّي أو سوئه أنّ الموظّفة المسؤولة عن الأرشيف تسكن في شارع التانكي، أخبرتني الموظّفة أنّ عفاف أيّوب (1958) قد اختفت أيضًا، فقلت لها " إنني أبحثُ عن وثيقة تخصّ القاص صاد، وليس عن عفاف أيّوب!! " قالت " لا تتعب نفسك رجاءً، فقد جاء قبلك من يبحث عن الوثائق، لا توجد وثيقة هنا تخصّ القاص صاد، ربما كان في مكتب المشاور القانونيّ للبنك للبحث عن وظيفة، ومصادفة التقت به الكاتبة عالية ممدوح! ".
رجوتها أن أبحث عن الوثائق بنفسي، قلت لها: " أنا كاتب جديد في السّردية العراقية، وهذه قصّتي الأولى، وأودّ أن تكون متطابقة مع الواقع!".
رأيت ابتسامة على شفتيها، حسبتها ابتسامة شفقة؛ لجهلي بمفهوم القصّة، أو لمغامرتي السّردية غير المحسوبة جيدًا، مرّت عدّة لحظات قبل أن تقول لي بلهجتها الواثقة: " أنت تبحث عن عفاف أيّوب، وليس عن القاص المغمور صاد!! لقد وصفتها ذاتَ مرّة أنّها إلهة بغدادية معاصرة، سأرشدك الآن إلى ملفّ البنك، وستجد فيه ملفّ عفاف؛ فربما يطمئنّ قلبك"
هل لاحظ أحدكم حرجي أمامها!، وجدت في الملفّ المخططات المعمارية للبنك، وصور واجهاته بالأسود والأبيض، ونظامه المصرفيّ، بوصفه أوّل مصرفٍ في المنطقة، وجدتُ وثائق أخرى، عن فروع المصرف، ورؤسائه التنفيذيين، لستُ بصدد عرضها الآن، وثيقة واحدة فقط، تشير إلى أنّ عفاف أيّوب قد حوّلت عن طريق بنك بابل إخوان، جميع الأعداد الورقية لجريدة الرّاصد (1971 ـــ 1980) إلى نظام رقميّ، وأرسلتها إلى فرع البنك في باريس، قالت الموظّفة أيضًا، وكأنّها تعرفني جيدًا " لقد كانت عفاف محظوظة؛ لأنّ الفرع الرئيس للبنك قد اختفى في ظروف غامضة ".