د.أحمد الزبيدي
ما بالغ الجاحظ في بحثه عن (الناقد) حين قال: (طلبت الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش، فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب..) فثمة تساؤل عن فرادة الناقد قبل التساؤل عن شرعيته.
ولعلك تجد وعيه وتكامل أدواته، واتساقها من خلال البعدين: التنظيري والإجرائي، ففي الأول تتضح ثقافته ودرايته وقدرته على الجدل والتحاور والتجانس الفكري، الذي يتحول فيه الناقد من مخبر عن منهج إلى مساهم في صناعته وتطوره.
فالأفكار لا تكتمل عند محطة واحدة، وفي الثاني تتجلى ذوقيته ومهارته في استنطاق النص عبر أدواته المنهجية، التي تنظم أفكاره وتهندس جمالية النص وتسبر أغواره بأسلوب علمي وموضوعي تتمثل فيه رهافة الناقد ورفعته اللغوية.
ولم يكن الجاحظ وحده من اطمأن على النقد عند (الكُتّاب)، فالنقد الحديث أكد جمالية اللغة النقدية والنص النقدي الموازي للنص الجمالي، من دون أن يكون لتلك الجمالية تشويه للمنهج وتحيز للمبدع، ولعل السمة الوصفية التي دُبغ بها النقد الحديث تمنح الناقد إجازة الانزياح الدلالي وليس النقدي.
ولكنَّ ثمة تساؤلا آخر عن الناقد الذي خلقته المؤسسة الأكاديمية، بإجازة رسمية بغض النظر عن مطابقته للمواصفات الجاحظية أو الاشتراطات المنهجية الحديثة، أعني الناقد الذي تعلم مهنة النقد من خلال منحه إجازة الماجستير والدكتوراه، والذي يصرّ – دائما- على وعيه للمنهج (الجديد!) الذي نزل، توًّا، في السوق النقدية، وهل في مناهجنا صناعة وطنية؟!، ثم يعتلي الناقد السبّاق منصة التأليف، فيتحدث عن المنهج الجديد بأسلوب (تعليمي!) بمعنى أنه يعلّمك ماهية المنهج ويسرد نشأته ويخبرك عن رواده ويستشهد بأحدث المصادر، وما القارئ إلا تلميذ عنده يحترم شرح أستاذه الناقد، ثم تأتي النصوص المنتقاة لتكون شاهدًا ودليلا على (فهم) الناقد للمنهج! وما بين تعدد المناهج النصية الحديثة وهرع الناقد المؤسساتي وراء ريادة (شرحها) ضاعت المواصفات الجاحظية وطغت الصناعة
(التعليمية).