امرأة وحيدة تريد أن تعيش

ثقافة 2020/12/16
...

  هدية حسين
ليس ثمة مشكلة عند المرأة الغربية إذا ما وقفت عند حافة الأربعين، فهي تمارس حياتها من دون منغصات مجتمعية، المشكلة عند المرأة الشرقية عموماً والعربية خصوصاً، ولذلك استغربت أن تكتب فرانسواز ساغان عن حافة عمر المرأة عندما تشرف على الأربعين، فتخطيت العنوان ودخلت الى منزل روايتها (امرأة عند حافة الأربعين) التي ترجمها معن عاقل وصدرت عن دار آرام للثقافة والكتب بدمشق.. 
ومنذ الصفحة الأولى نرى أن (بول) لا تداهمها الهواجس وهي بعمر التاسعة والثلاثين وتخطو حثيثاً الى الأربعين، نظرة لامبالاة على وجهها عندما تقف أمام المرآة، وهي المرأة التي عاشت إخفاقات كثيرة لكنها لم تكترث لتلك الإخفاقات، إنها تعيش حياة هادئة بين أصدقاء طيبين ومودة دائمة تشعر بها منهم، أما ماضيها فلا يهيمن على حاضرها وإنما يخطر لها من دون حسرات، أخفقت في زواج سابق من رجل ما لبث أن هجرها لتعيش وحيدة ترتّب حياتها كما تحب حتى وقعت في غرام روجيه، وهو رجل مغامرات متعددة وهي تعرف ذلك، إلا أنها تحبه لأنه يجعلها سعيدة، وهو من وجهة نظرها رجل مختلف وخارج التوقعات، تجهل أو تتجاهل بعض نزواته ولا تعلم بأنه يخونها حقاً، كثير الأسفار بسبب العمل، وأحياناً من أجل نزوة فيكذب عليها بحجة العمل.
تسير الرواية سيراً هادئاً، من دون صراعات كبيرة، كما لو أنك تمشي معها على أرض مستوية، لا تلال تصعدها ولا منحدرات تهبط إليها، حتى يدخل سيمون حياتها، وسيمون هذا هو ابن السيدة فان دن التي تعمل لها بول بعض الديكورات في شقتها، هو في الخامسة والعشرين من العمر ويعمل محامياً متدرِّباً عند أحد المحامين الكبار، وليست له مغامرات نسائية سوى تلك التي حدثت في بواكير مراهقته، أغرِم ببول منذ أن رآها، تعلَّق بها وراح يلاحقها بينما هي لا ترى فيه سوى شاب صغير لا يرضي نزعاتها العاطفية، فالسعادة التي يُشعرها بها روجيه لا يحققها سيمون الذي يشعر بالسعادة كلما نظر إليها، وعلى الرغم من ذلك فإنها لم تفلت سيمون، لأن في حياتها الكثير من الثقوب والأيام الفارغة بسبب غيابات روجيه المتكررة، ولم تمسك به فظل سيمون يتأرجح معها لفترة طويلة ويسعى إليها بكل الطرق وهو يعرف ارتباطها بروجيه.. روجيه الذي تشعر معه بأنه سيدها، أما سيمون فهو يشعرها بالتابع الذليل الذي يلبي طلباتها.
في معظم أعمالها تلعب ساغان على الأحاسيس والمشاعر حتى وإن كانت تلك المشاعر ملغومة ومحكوم عليها بالخيبة، وهي التي خبرت الحياة ودخلت في علاقات متعددة وغامرت وقامرت وأدمنت المخدرات وعن روايتها (أربع زوايا للقلب) قال ابنها (إنها جريئة حدَّ الوقاحة) فهي امرأة حرة وكذلك تريد لبطلاتها، وبول التي وزعت عاطفتها لرجلين ستدرك بعد فوات الأوان أن روجيه ليس على قدر الحب الذي تكنه له، لكنها ترغب فيه بشدة وهي تعرف بأنه سيعتذر للمرة الألف عن لقائها لأن لديه عشاء عمل وسيلتقيها في وقت آخر، بينما يوفر لها سيمون كل الأجواء الشاعرية وتجده عند بابها كلما خرجت للعمل، ويأخذها الى المتاحف والحفلات الموسيقية، ويمنحها أولوياته حتى في العمل، وهي تعرف بأنه ليس الرجل المناسب لها، إنه يحبها بإخلاص وتعلّق غريب، وسنعرف في سياق الرواية أن سبب تعلق سيمون بها رغم فارق السن بينهما أنه يفتقد حنان الأم، وأن نظرته لأمه تصلنا عبر جمل عابرة وقصيرة يرميها لبول تدل على أنه يفتقد عاطفة الأمومة، هل حبه لبول تعويض عن هذا الفقدان؟ لا شك أنه كذلك.
ليس هناك اشتغال على حافة الأربعين بالمعنى الذي تعاني فيه بطلة الرواية من هذه السن، سوى بعض اللقطات الخاطفة التي لا تشكل عبئاً كبيراً على بول، ربما ساءها فقط ذات مرة وهي مع سيمون الشاب الذي يصغرها بكثير ما قالته إحدى العجائز لصديقتها وهي تراهما معاً: كم عمرها الآن؟ وما لبث سيمون أن بدد ما فعلته تلك العبارة بعبارات ملؤها الحب والتعلُّق بها.
ستشتعل الغيرة بين الرجلين، روجيه وسيمون، لكنها لا تصل حدَّ المواجهة والغل، كل واحد يعمل بطريقته، وسيمون يغلق الباب على بول بالمزيد من الدعوات والحفلات، في حين ينغمس روجيه بعلاقة جسدية مع امرأة أخرى من دون أن يُسقط من حساباته حبه لبول، وهي تتأرجح بين الرجلين، حبها الحقيقي لروجيه الذي لا يمنحها الوقت الكافي، وتسليتها مع سيمون الذي يحبها حباً حقيقياً لكنها لا تجد فيه سوى سد الفراغ العاطفي لكيلا تشعر بالوحدة التي لا تطيقها.
وبعد الكثير من التفاصيل والمراوحة، يدرك كل من بول وروجيه أنهما يحبان بعضهما حباً حقيقياً مهما ابتعدا، يبعث لها روجيه برسالة ويعتذر منها فتقرر طرد سيمون من حياتها والعودة الى روجيه الذي شعر بأن إهماله لها جعلها تذهب لرجل آخر وسيخسرها الى الأبد، يلتقيان ويسويان ما بينهما ويضرب لها موعداً آخر، وحين يرن الهاتف في الأسطر الأخيرة من الرواية تعرف بول أنه روجيه وستتوقع بأنه سيعتذر كعادته عن الموعد الذي ضربه لها بحجة العمل، فهل سيحدث ما كانت تتوقعه؟ هنا تنتهي الرواية، على علاقة لا ندري هل ستستمر أم ستعيد أرجوحة الوقت بين الاثنين من دون أن تعلن عن ثبات؟.