علي المرهج
شغل مبحث الفلسفة والسياسة أهمية كبيرة منذ افلاطون وأرسطو الى يومنا هذا، وكان الفيلسوف مشغولا بالسياسة، فشارك السلطان حلمه في تصوره لنفسه في أن يكون حاكماً، فكان التنافس على السلطة بين الفيلسوف والسياسي في كتابات الفلاسفة بيِّناً وجلياً.
لم تكن علاقة أرسطو بالإسكندر تخلو من التلميح بحلم ارسطو تحقيق شيء من مرامي الفيلسوف لسعيه لإدارة الدولة أو المشاركة في حُكمها، ولم يكن باقي الفلاسفة ببعيدين (لربما) عن مرامي أرسطو هذه، فأغلبهم إما كان مشاركاً في السلطة أو قريب منها، والحاكم كما يبدو لي كان يخشى من الفيلسوف، مُدركاً لمراميه، ولربما تكون لنا محنة ابن رشد فيلسوف قرطبة خير دليل .
وضع الفيلسوف هذا بوصفه مُتماهياً مع السلطة أو ناقداً ربما نجد فيه إجابة عن أحد تساؤلاتنا عن اغتراب القول الفلسفي عن الهم المجتمعي الدارج، ففي تماهيه مع السلطة خروج عن مألوف القول وتوصيف الحال والمُعاناة المجتمعية بلغة يُدركها المجتمع بثقافته المُعتادة، ولربما يكون هذا من مقاصد السلطة، التي فرضت على الفلاسفة نمطاً من الانهمام بالبحث عن أصل الوجود، ونسيان أو تناسي سبب خراب الوجود الكامن في استبداد السلطان، ولذلك بقيَ القول (أصحاب الفلسفي يعيشون بأبراج عاجية يتأملون أسباب الوجود ويهيمون في التعليل والتحليل والبحث عن الدليل في أصل هذا الوجود، هل هو مادي أم روحاني) وتناسوا الوجود أو "العالم" وعلاقة الإنسان به، وبالكيفية التي ينبغي أن يصيغ الفيلسوف وبلغة واضحة هذه العلاقة عبر الخروج من عوالم "المُتعالي" للولوج لعوالم الظاهر بلغة كانت. ومشكلة أغلب الفلاسفة أنهم انشغلوا وهاموا بعوالم "الميتافيزيقا"، وذلك مُبتغى السلاطين ووعاظه، كي يكونوا بعيدين عن تهديد ميوله "الثيوقراطية" التي ترنو لحُكم الناس بوصفهم رعايا وقطيعا، لا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، فالقطيع مهمته الطاعة وتأكيد الولاء، والمواطن مهمته المُراقبة والمُحاسبة وفق شروط "العقد الاجتماعي" بينه وبين السلطة، الذي يقتضي أن تكون السلطة راعية لمصالحه، وإن أخلت بشروط هذا العقد، فله الحق في الثورة عليها والسعي للخلاص منها.
انشغل جُل فلاسفتنا المسلمين والعرب بالبحث الميتافيزيقي، وإن كان في كتاباتهم بعض هم في قضايا الأخلاق والسياسة، فهي لا تعدو سوى تفسير لمشكلة الصفات الإلهية
والتنزيه.
إن خشية السلطة السياسية من فصاحة الفلسفة وأهليتها يكمن في أن تكون محركة للوعي المجتمعي في سبيل تحقيق العدالة والسعادة، بوصفهما غاية والفضيلة بوصفها أداة لتحقيق هذه الغاية، جعل السلطان يسعى لأن يكون الفيلسوف تحت ظل السلطنة والمُنظر لأيديولوجيا السلطة، وإن شعر بخروج خطابه عن الأُطر المرسومة له، ستجد الفقهاء ورجال الدين من "الكهنوت" سيف السلطان القاهر الذي يقطع رقاب المُرتدين من الفلاسفة وغيرهم من المُفكرين، الذي أشغلوا عقولهم بأمر الُحكم وسياسة الجمع من المؤمنين التي هي شأن السطان وأتباعه والمُريدين!، وكل مفكر أو فيلسوف يخرج عن ما رسمته له السلطة السياسية من أطر سيكون مصيره الاقصاء والابعاد.
ولنا في سقراط خير دليل حينما جرع السم للخلاص من سطوة السلطة، حينما حُكم عليه بأنه قد أفسد عقول الشباب فكان لهم من المُخربين، لذلك اختار التجاوب مع الحُكم عليه بالإعدام كي يرسم صورة لالتزام الفيلسوف بالقانون، وإن كان مُشككاً بعدالة هذه القوانين، لأن من رسمها طُغاة وقد عدَهم سقراط من المارقين، ولكنه استجاب من أجل تصدير فكرة "احترام القانون" للناس بوصفها الأساس في تحقيق العدل والفضيلة، ولم يكن سعي تلميذه إفلاطون (على الرغم مما في فكر افلاطون من نخبوية ولغة تبريرية للحكم الفردي) سوى صدى لرغبة سقراط في تحقيق العدالة، ولم يكن سعي فيلسوفنا الفارابي على خطى إفلاطون سوى محاولة نقدية لشكل الحكم في زمانه، وإلَا لما سعى الى طرح شروط تكون (المدينة الفاضلة) في مقابل المدن الجاهلة أو الفاسقة وغيرها من مُضادات "المدينة الفاضلة".