يذكرني صديقي الشاعر العراقي الكبير(عبد الحسين فرج) بضرورة العُزلة وأزمتنا مع العالم الضاج بالتفاهة والفراغ، كتب ذات يوم مقطعاً شذرياً مهما [مزدحمٌ في الغرفة وحدي]، وتذكرت هذا المقطع وأنا أقرأ رواية "عزلة صاخبة جدا" للروائي التشيكي المهم (بوهوميل هرابال) حيث العزلة الصاخبة حد الفوضى يعيشها البطل مع صُحفه القديمة البالية وفئرانه وخمرته وأكداس الكتب الجاهزة للسحق والفناء، وحين قرأت عن حياة المؤلف اكتشفت أنه مارس الكثير من المهن قبل أن يحترف الكتابة، ومن هذه المهن هي مهنة بطله (هانتا) المصاحب لآلة سحق الكتب.
كل هذا حدث في زمن الدكتاتورية ومباشرة قادتني هذه الرواية إلى رواية (فهرنهايت 451) للروائي (راي برادبري) وهي أيضا تحكي عن قصة نظام شمولي يقوم بغزو العالم في المستقبل ويجعل التلفاز دعاية سياسية له ويقوم بحرق الكتب على درجة (451) فهرنهايت.
وكل هذا بطبيعة الحال يذكرنا جميعا بعهد نظام صدام ومصادرته لآلاف الكتب وحرق الكثير منها واعتقال مؤلفين وكتبيين لأنهم حازوا ذات مرة على كتب ممنوعة، وأتذكر في تسعينيات القرن المنصرم مُنعت روايتي "ربيع الضواري" وسحبت من المكتبات العامة والمدرسية، (هرابال) هنا يذكرنا بكل هذه المأساة المتصلة بالكتب والمطبوعات عموما، (35) عاما قضاها بطل الرواية في مهنة سحق الكتب بآلته الجهنمية التي لا تبقي ولا تذر، ولكنه في الوقت ذاته يأخذ ما يراه مناسبا من كتب الفلسفة والروايات، لذلك تراه يعيش مع كتبه المحتضرة وفئرانه وشبح حبيبته الغجرية، يقرأ ويشرب البيرة ويعيش ذكرياته وحيدا في مكان منعزل مليء بالقذارة ومخلفات الصحف القديمة والكتب البالية المغضوب عليها من قِبَل الأنظمة القمعية آنذاك..لا تخلو هذه الرواية من صور الماضي إذ يستمد البطل ذكرياته مع (مانسا) الفتاة الغجرية مما يخفف عليه قسوة الماضي ومنغصات عيشه الذي لا يطاق، يتخذ مسار حياته منحى أحاديا فرديا وتتكرر سلسلة من الوقائع اليومية الرتيبة حد الملل، فضلا عن أن أفق حياته الاجتماعية محدود جدا ونادراً ما يتواصل مع الآخرين ربما بسبب خوفه من بطش رقابة هذا النظام الحديدي.
نشر (هرابال) هذه الرواية بنفسه في عام 1976 ولم تُنشر رسميا حتى عام 1989 بسبب رقابة الدولة البوليسية، يقول (ميلان كونديرا) عنه: "أفضل كتّابنا اليوم وكِتاب واحد من كتب (بوهوميل هرابال) يختصر كل ما عجزنا نحن جميعا عن تقديمه لأجل انسان متحرر، رغم كل ما نفعله بإيحاءاتنا واحتجاجاتنا الصاخبة"، وتكتب عنه كبريات الصحف العالمية: (هرابال) صرخة ضد نهاية الانسانية وكتابه هذا هو انقاذ من اللامبالاة القاتلة الفعالة في قتل الحرف، لقد تحول هذا الرجل إلى أسطورة كبرى وصار الناس من البشر العاديين وكبار الشخصيات يذهبون إلى براغ لزيارة الحانة التي اعتاد على ارتيادها كما لو كانت مكانا
مقدّسا .