يعد قسطنطين كافافي من أبرز الشُّعراء اليونانيين المجددين. عمل موظفا حكومياً وصحفياً أيضا. نشر أكثر من (154) قصيدة تتضمن القصائد الأبرز التي كتبها بعد سن الأربعين. كان كافافي من المفتونين بفكرة الكمال؛ لذلك كان حاذقاً في نحت كل بيت من أبيات قصائده.
لم يتبع كافافي الأنموذج المقفى وقصائده كانت نابعة من تجاربه ومعرفته العميقة والواسعة بالتاريخ.
وتعد قصيدة (ايثاكا) من بين أهم أعماله التي استلهمها من الملحمة الأسطورية (الاوديسة) وعودة البطل الملحمي اوديسيوس إلى وطنه.
فكرة القصيدة تتحدث عن السعادة التي يعثر عليها المرء في رحلة الحياة، وكيف أن النضج الروحي يزداد خلال فترة من الزمن.. وليس أجمل من جعل الرحلة حافلة بالذكريات كلما استطاع المرء تحقيق ذلك.
قصيدة (ايثاكا) تقترح بأن الأمر الأهم في الحياة هو التجربة المندغمة بالرحلة وليس الوصول إلى الهدف الأخير بحد ذاته، هذه الرسالة تصل من خلال استخدام الاحالات الضمنية والاسطورية والرمزية. اذ ان القصيدة تحتوي على معنى أعمق فعندما تقرؤها للمرة الاولى قد تظهر رحلة شخص يواجه بعض التحديات:
وأنت تنطلق إلي إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
حافلة بالمغامرة٬ حافلة بالاكتشاف
لا تخف من الليستريجونيات والسيكلوبات
وبوسيدون الغاضب
لن تجد شيئا من ذلك في طريقك
طالما اِحتفظت بأفكارك سامقة
طالما مسّت روحك وجسدك الإثارة الرائعة
لن تقابل الليستريجونيات والسيكلوبات
ولا بوسيدون المتوحش
مالم تحملهم داخل روحك.
ومن وجهة نظر الإغريق فإن الرحلة تمثل بحثاً ذاتياً داخلياً لاكتشاف الكينونة. وهي أيضا ترسم احتفال الطبيعة البشرية والمنجز الذي يتم تحقيقه بتحديد الهدف بغض النظر عن حجم العقبات التي يتوجب عليك تخطيها. كل شخص يحدد هدفا في الحياة. لايهمُّ هل كان صغيرا أم كبيرا.. سوف يأتي السؤال عندما تظهر عدة عقبات على المرء تخطيها للوصول إلى هدفه. وفي حالة عدم تحقيق هدفنا هل ينبغي علينا أن نعتبر أنفسنا فاشلين؟. تقول القصيدة بأن عدم الوصول للهدف لا يعني فشلاً لأن النقطة الأساسية هي انطلاق الخطوة الاولى لبدء الرحلة.
وخلال الاستمرار بهذه الرحلة فإن كلَّ مرحلة تعطيك درساً لايمكن الحصول عليه من مكان آخر..
وكل عقبة هي درسٌ علينا أن نتعلّمه ليزداد نضجنا الروحي.. ولذلك بمرور الوقت كلما وصلنا إلى مكان معين فإن أشياء ثمينة يتم تعلّمها.
القصيدة المهمة هي التي تربك القارئ في البداية ومع إدراك وفهم العمق الداخلي تجعلنا نفهم كيف من المهم أن نرى أنفسنا متمتعين بالتركيز وتلهمنا لنبقى هادئين بغض النظر عن حجم التعقيدات والمصاعب المحتملة.
يستفيد كافافي في قصيدة (ايثاكا) من الأسطورة والتاريخ والتلميح المعتمد على الأقنعة لايصال المعنى وزيادة الثراء والشغف بالحياة... والشاعر أمينٌ في الحفاظ على تفاصيل ملحمة الاوديسة فهو لايحرف الاسطورة بأي شكل من الأشكال لكنه بالتأكيد يحذف الكثير من الوقائع التي تحدث في الملحمة والتي لاتخدم ثيمة القصيدة المركزية التي يجسدها الشاعر وبقيت الفكرة العامة للرحلة إلى (ايثاكا) سليمة في مسار تطور القصيدة.
وتعتمد ثيمة النص على معنى الحياة والرحلة إلى يقوم بها احدنا. وكيف نصلي لأن تطول هذه الرحلة.. الاستعجال لامعنى له والوصول إلى ايثاكا ليس هو الهدف بحد ذاته... بل التمهّل والاسترخاء والتمتع بالمزيد من التجارب والثمار المعرفية التي تنضج على لهب العقبات المتوقعة:
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة٬ يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرة الأولى
ولعلك تتوقف عند محطات التجارة الفينيقية
لتشتري أشياء جميلة
عرق اللؤلؤ والمرجان٬ العنبر والأبنوس
فوصولك إليها٬ هو غايتك الأخيرة.
وإذا حصل أن الشخص لا يجد في نهاية الرحلة أي شيء ممتعا وذا معنى حوله يقول كافافي: إن (ايثاكا) لم تخدع هذا الشخص لأن (ايثاكا) ليست نقطة الوصول بحد ذاتها:
لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة
فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق
لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوى ذلك
فإذا ما وجدتها فقيرة٬ فإن إيثاكا لم تخدعك
فبالحكمة العظيمة التي جنيتها٬ بهذه الخبرة الكبيرة
لا بد أنك ــ بالتأكيد ــ قد أدركت٬ بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا.
وعلى المرء أن يفهم منذ البدء معنى (ايثاكا) فهي الرحلة بحد ذاتها بكل تعقيداتها وعقباتها وتجاربها، والاهم هو ثراء الحكمة التي نتعلمها والتي تجعلنا نفهم المعنى الأعمق فيزداد شغفنا بالحياة ..