الكتابة مراجعة النفس

ثقافة 2020/12/21
...

ياسين النصير
 
 في مجمل مذكرات الأدباء والفنانين، نجد عبارة غالبًا ما تأخذ شكل التحول من وضع إلى آخر مختلف، تقول العبارة لابد من تغيير الطريق، لأني وصلت إلى نقطة مجهولة فيه، ولأن الفكرة التي أردت تحقيقها لم تؤتِ ثمارها ضمن هذا المسار، وعليَّأن أجد طريقًا آخر. ليست الفكرة في التحول من والى هي التي تشغل، بل الفكرة في اتخاذ التحول سمة لطرائق التغيير، وهذا ما لايحدث دائمًا عند أولئك الذي يعتقدون أن كل خطواتهم - مهما كانت الطريق مبهمة -صائبة، بالرغم من النتائج المحدودة. 
 لم أجد على مستوى تحقيق الفكرة أن الطريق المستوية والهادئة المضاءة، كفيلة بأن تحقق الوصول،فالطريق مهما كانت؛ طريقان إن لم تكن طرقًا، وابتداء من اللغة، تعني الطريق معاني عدة،وأي بناء جمليّ لها لن تكون بالمعنى نفسه في كل الجمل، فكيف إذا كانت الطريق واقعة وعلى أرض، ولم ترَ من نور اللغة إلّا بعدًا واحدًا؟ عندئذ سيكون الخطو فيها هو اكتشافين: اكتشاف للطريق نفسها، واكتشاف لقوة ذاكرتك وبصيرتك. لذلك ليست الطريق السالكة منقذة لأيةفكرة حتى لو كان مجرّبة، ومختبرة، وسارت عليها قبائل وأقوام، وأمم، وثبتت نتائجها أنها صحيحة، وقادرة علىاستيعاب حركة قدميك وأفكارك وكل ما تخيلته عن مسافاتها ومجاهلها وجروفها وحواشيها، فالأمر ليس معقدًا في لغة الطريق فقط،إنما في لغة من يستعمل اللغة، فقد يكون هدف السيرسياحة، وقد يكون وصولًا لغرض، وقد يكون نزهة أوبحثا انثروبولوجيًا،وقد يكون تعرفًا على طناطلتها وشياطينها المختبئة في ظلمتها، لذلك ليس استعمال اللغة وحدها كافيًا للتعرف على الطريق.
في مرات كثيرة أبدأ باستهلال موضوعي، ثم اسيرفيه مرحلة،واذا بجملة أو صورة تعترض طريق الوصول، فأغيِّر اتجاهي تلافيًا لأي مطب، لكني أجد العثرة ثانية، وقد انتصبت وسط الطريق، وبمعيتها هذه المرة؛ بناتها وأخواتها وبني عمومتها، عندئذ أقفل راجعًا كأي سندباد خسر بضاعته في البحر، لأبدأ من جديد باستهلالٍ ثانٍ، وهكذا أسير ومعي عدّتي المفتاحية، ثم أُفاجأ قبل وصولي النهاية بكتلة أخرى من أحجار اللغة والأشياء، وهي تسدُّ عليَّحتى منافذ الرؤية، وعليَّ هذه المرة أن أستريح قليلًا، فالأمر لايمكن أن يكون مجرد صدفة، خاصة بعد رحلة استغرقت فيها مجموعة كبيرة من الأغذية الفكرية والنفسية، الكتلة المنصوبة كشاهدةقبر تقول:قف هنا،وعليك إما أن تعود،أو تترك الطريق، فقد جف ضرع البئر، ولم يعد ينضح ماء.
ربما تكون الحياة هكذا مجموعة طرق تبدو مستوية وسهلة ومجربة أول الأمر، ولديك خبرة بها وبما تحتويه، ولكنك لم تعرْ للزمن وتقادمه اهتمامًا، فلم تعد الطريق شِرعةً كما يقال عنها في الفقه الديني، ولم تعد افتراضًا لطرق أخرى كما تتصوره الهرمينيوطيقا بأن الطريق الواحدة اثنتان، ولم تعد صورة لأشياء سبق وأن كانت فيهاعلامات دالة عليها،فالزمن أكول يأتي على أخضر الأشياء ويابسها، كل هذا يحدث والطريق نفسها التي تعودت السيرفيها مازالت مجهولة.
قال صديقي الذي أأتمن لرأيه في المهمات، أن أي طريق إذا لم تبدل حتىاسمها، لم تعد هي الطريق، كل سكون يعني بقاءه ضمن حدود تفكير قبلية، وعليك ياصديقي أن تعتقد،وبقناعة ان الاشتراكية نفسها مثلًا، ليست دائمًا الطريق لسعادة البشر،فقد تفشلها الممارسات المخطوءة، كما أفشلت الممارسات التي تدّعي الأديان الدين نفسه، وأفسدت الممارسات القومية فكرة الهوية للأمة،وأفسدت اللسانيات القناعة التي كنا نعتقد بها أن اللغة ذات وجه واحد. فالطريق ليست هي ما تراه خارج ذاتك، الطريق انشغال داخلي. تحدث بول فاليري في ذكرياته الشعرية، أن: الشعر هو «مكابدة الوحدةمع النفس» وأن» الشعر انشغال داخلي»، وأن»المحاكاة شيء ضروري ومطموح»،ولكن قد تؤدي الى نقل ما سبق وأن أنجز،  فالسيرفي الطريق نفسهامن دون سؤال يعني بقاؤك ضمن بقعة من يولد بميناء صغيرعلى حافة بحركبير، فلايرى البحر الا عبر نافذته الصغيرة، بينما الشعر هوأن تدع البحر يعبر إليك، ومادامت نافذتك صغيرة، لا تتوقع من البحر غير رذاذ أمواجه.