كيف صنعنا إل بوستينو؟

ثقافة 2020/12/22
...

فيل هود
ترجمة: جمال جمعة
في عام 1995 عرض فيلم فريد من نوعه: إل بوستينو (ساعي البريد)، الذي تدور أحداثه عن تجربة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في المنفى وعلاقته مع ساعي البريد، الذي يقع في غرام نادلة في مقهى القرية التي يقيم فيها. قام الممثل الإيطالي “ماسيمو ترويسي” بأداء دور ساعي البريد، لكنه توفي بعد 19ساعة من انتهاء التصوير. رُشِح ماسيمو إلى جائزة الأوسكار بعد وفاته ليكون واحداً من الممثلين القلائل، الذين يمنحون تلك الجائزة بعد موتهم. هنا يتحدث المخرج البريطاني مايكل رادفورد، والممثلة الإيطالية ماريا غراتسيا كوتشينوتا عن تجربتهما في صناعة هذا الفيلم:
مايكل رادفورد، مخرج
ماسيمو ترويسي كان نجمًا كبيرًا في إيطاليا. لقد أحب فيلمًا صنعتُه من قبل بعنوان (وقت آخر، مكان آخر) عن أسرى حرب إيطاليين في اسكتلندا. بحثنا في مشاريع مختلفة يمكن أن نقوم بها معًا، واشترى حقوق هذه الرواية التشيلية المسماة (الصبر المتَّقد)، حول موت بابلو نيرودا وصداقته مع صياد سمك يبلغ من العمر 17 عامًا.
كان لديه اقتباس مكتوب بالفعل، لكنه كان مروعًا. ماسيمووأنا بدأنا بالعمل من جديد مع آنا بافيجنانو، صديقته السابقة، في فندق على شاطئ البحر في سانتا مونيكا. جعلنا من الصياد ساعي بريد يبلغ من العمر 40 عامًا، لعب دوره ماسيمو، كما أن منفى نيرودا كان من اختراعنا أيضًا. لحظة واحدة في الكتاب أطلت برأسها. في السبعينيات، طلب نيرودا من الصياد أن يرسل له تسجيلات صوتية من منزله في جزيرة إيسلا نيجرا. ارتأيت أن من الممكن بناءها كتعبير عن رغبة ساعي البريد في القيام بشيء إبداعي. بالنسبة لي، كان هذا هو المفتاح.
اتصلت هاتفياً بالممثل فيليب نويريه، الذي كان مظهره يشبه نيرودا بشكل مذهل. في غضون ساعة، اتصل بي بدوره وقال: «إذا أعطيتَ هذا الدور لأي شخص آخر فسأكون غاضبًا بشكل لا يصدّق». كنت أيضًا بحاجة إلى ممثلين من نابولي في سن السبعين ممن يبدون كالصيادين في الخمسينيات. وقد جاؤوا، تعرفت على العديد منهم من أفلام فيلليني، لكنهم كانوا جميعًا بدناء، غير مناسبين تمامًا. قلت لمدير الطاقم: «لا يمكنني قبول أيّ منهم.» قال: «الحمد لله». ثم أشار إلى رجل يجلس في الرواق ببدلة بيضاء، وقميص أبيض، وحذاء أبيض، وربطة عنق حمراء. كان يدخن سيجارة بمبسم. قال مدير البث: «إنه من الكامورا (مافيا إيطالية). إنه يسيطر على جميع الممثلين في نابولي فوق سن السبعين. إذا كنت تريد واحداً منهم فسيكون من ضمن الطاقم، ويكون له رصيد في الانتاج».
في هذه الأثناء، ذهب ماسيمو، الذي تضرر قلبه بسبب الحمّى الروماتيزمية عندما كان طفلاً، إلى هيوستن لإجراء الفحوصات. وعندما عاد بعد ستة أشهر، لم يكن يبدو أنه الشخص نفسه.
انهار وسط الطاقم في اليوم الثالث. كان في حالة مريعة. لم يكن بإمكانه الوقوف أمام الكاميرا أكثر من ساعة في اليوم تقريباً، لذا كان علينا المضي في عملنا بحدود ذلك الوقت. كنت ألتقط له لقطات مقرّبة فقط. وإذا تطلب الأمر لقطة عريضة كنا نستخدم بديله. في العديد من المشاهد، التي يصل فيها على الدراجة الهوائية، لم يكن هو. كل مشاهد الحوارات أداها وهو جالس. جعلته يجلس على منصة تسجيل الصوت في شينشيتا (مدينة السينما في روما) ويتلو حواره كاملاً، فقط لاستعماله في حال لم يستطع ذلك مستقبلاً.
في المشهد الأكثر شهرة، تسجيلات الشريط، لم يكن موجوداً أثناء التصوير على الإطلاق. أخذتُ شخصية عامل التلغراف الذي يتجول مع المسجل واستخدمت يدي وقمت بدور الدوبلير لماسيمو مع الميكروفون في المقدمة. فيليب أدى جميع حواراته بالفرنسية، ولذا في المشهد الذي يناقشون فيه الاستعارات على الشاطئ، لم يتمكن هو وماسيمو من فهم ما يقوله أحدهما للآخر. ومع ذلك بدا كما لو كان هناك مثل هذا التفاهم بينهما.
سرنا تماماً وفق الجدول الزمني. بعد يوم ماسيمو الأخير، ذهب للإقامة مع أخته في أوستيا. كنت أستمع إلى الراديو في شقتي في روما، وفجأة سمعتهم يقولون إنه قد مات. قفزت إلى السيارة مباشرة متجهاً إلى أخته. كنت أبكي وأنا أقود السيارة، وفجأة أدركت أن ثمة من يصورني من شاحنة باباراتزي (مصورون يطاردون المشاهير). في جنازته، سار بديله تكريماً له خلف التابوت. فاعتقد جميع النابوليين، الذين هم خرافيون حد اللعنة، أنه كان شبحه.
اشترى هارفي واينستين الفيلم لتوزيعه. أتذكر أنه قال لي: «سأبيع الشِّعر للشعب الأمريكي»، وهو ما فعله أيضاً. 
تم ترشيحنا للعديد من جوائز الأوسكار الكبرى، وحقق الفيلم 21 مليون دولار، مما جعله أحد الأفلام الناطقة بلغة أجنبية الأعلى ربحاً على الإطلاق. كان النجاح ضخماً في الهند أيضاً، رغم أنني لا أعتقد أن أياً منهم قد اشترى نسخة قانونية. تلقيت رسالة من (الروائي الياباني) هاروكي موراكامي يقول فيها إنه كان فيلمه المفضل. الجميع يفكّر في وقت ما بكتابة قطعة من الشعر للتعبير عن الجانب الأفضل من ذواتهم.
 
ماريا غراتسيا كوتشينوتا، ممثلة:
بعد خمس تجارب، حصلتُ على دور بياتريس التي كان يتودّد إليها ساعي البريد ماسيمو. كانت صدمة كاملة بالنسبة لي. كانت لديّ بعض الأدوار الصغيرة في التلفزيون، إلاّ أنها المرة الأولى التي أمثّل فيها في فيلم سينمائي حقيقي. قال لي ماسيمو: «أنتِ مثالية كما أنتِ. أنا أحتاج إلى فتاة إيطالية جنوبية نموذجية، لذا كوني على طبيعتك».
أنا من ميسينا، من صقلية، لذلك نشأتُ إلى حدّ ما مثل بياتريس، جامحة قليلاً. كان أصعب شيء هو عدم التحرك بطريقةٍ عصريّة. كانت النساء في الخمسينيات أكثر حسّية. لذلك شاهدتُ العديد من أفلام صوفيا لورين وجينا لولوبريجيدا.
كنت متوترة جداً بين كل هؤلاء الناس المشهورين. كانوا جميعاً لطفاء للغاية، باستثناء عندما يصرخون علي، لكنني استحق ذلك. كنت بحاجة للتعلم بشكل أسرع. كان مايكل رادفورد من نوع المخرجين الذي يريدون كل شيء يبدو مثالياً. كان عليّ أن أكرر المشهد الذي قابلتُ فيه ساعي البريد للمرة الأولى حوالي 50 مرة. قال مايكل: «يجب أن يكون الأمر وكأنكِ في حالة سُكر»، قلت له: «أنا لست في حالة سُكر، أنا فقط في حالة حبّ»، قال: «الحبّ مثل النبيذ أحيانًا، يجعلك تشعرين بالسعادة، لكنها ليست سعادة بالضبط، بل كما لو كنتِ في عالمٍ آخر». ليس من السهل الفهم، خاصة عندما لا تكون محترفًا.
تأثير الفيلم كان بمثابة صدمة. قبله كنت ماريا غراتسيا، وبعده أخذوا ينادونني «لا كوتشينوتا». في أميركا الجنوبية، لم أكن قادرة على السير وحدي في الشارع. كنت صغيرة جدًا، في الرابعة والعشرين من عمري فقط. كانت صديقتي الحميمة ترافقني باكية، فقد أصبحت مشهورًة جدًا، وماسيمو لم يعد موجودًا. لكنه بطريقة ما لا يزال على قيد الحياة من خلال الفيلم. لقد كنت أقول دائمًا: إنه ترك قلبه في داخله.
The Guardian