العالم الذي لا تعرفه سيلي

ثقافة 2020/12/22
...

  هدية حسين

هل البشرة السوداء لعنة؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا خلقها الله؟ تقول أليس ووكر في مقدمة روايتها "اللون أرجواني" تلك الرواية التي حازت على جائزة بوليتزر وجائزة الكتاب الوطني (منذ القرن السادس عشر ساروا مشياً على الأقدام، قاطعين سهول السافانا والغابات المطرية حيث كانت سفن العبيد بانتظارهم لتقلّهم الى العالم الجديد، أخذوهم إلى "قلاع العبيد" سيئة الذكر، أرغِموا على الركوع أمام تمثال اليسوع، وقام كاهن برش الماء على رؤوسهم الحليقة، وجُرِدوا من أسمائهم القديمة وتم إعطاؤهم أسماء مسيحية تتوافق مع دينهم الجديد الذي اعتنقوه على عجل بمساعدة السوط).

هكذا بُني العالم الجديد، أميركا، بجهود هؤلاء العبيد، وتستعرض أليس ووكر باختصار تاريخ العبيد المحرومين من كل شيء من أجل مجد العالم الأبيض، وقد استُهلِكوا لآخر رمق من دون أجر ولا تقدير، لكن الرواية لا تركز كثيراً على هذا الجانب وإنما على وضع النساء اللواتي يعشن في ظل عبودية الرجل كأن كل واحدة منهن لا شيء، ولا هي موجودة إلا لخدمة الرجل وبالسوط نفسه الذي سيق فيه الرجال للعمل كعبيد، ليس ثمة صراع كبير هنا بين الأبيض والأسود إلا في بعض الحالات، الرواية تتمحور حول الصراع بين الملونين أنفسهم، بين الرجال والنساء تحديداً، وقد لحق بـ (سيلي) بطلة الرواية ما لم تتحمله امرأة من قبل، لذلك توجه رسائلها الى الله، لا تسأله لماذا يحدث لها ذلك، بل تُطلعه على ما حدث ويحدث لها تحت خيمته.
تبدأ رسائلها بعبارة (عزيزي الله) تكررها مع بداية كل فصل، وتدخل مباشرة الى معاناتها، وسنعرف بأنها ابنة صالحة لكنها اغتُصبت لأكثر من مرة من زوج امها (الفونسو) وأنجبت طفلين قام ببيعهما الى إحدى العوائل، وبسبب مرض الأم ومن ثم موتها كانت تقوم بدور الأم لأخوتها الكثر من دون أي تقدير بل كان زوج الأم يهينها ولا يتوانى عن ضربها، ويقوم أخيراً بتزويجها من رجل يدعى إلبرت، أرمل وله عدد من الأولاد، وما على سيلي الا أن تعتني به وبأولاده وبالحقل، تعمل كخادمة مهانة ومحتقرة، تدعوه حين تتحدث عنه بالسيد، ولم تعرف اسمه الحقيقي إلا بعد وقت طويل، وتعامل معاملة العبيد فتُضرب بالسوط، وتهرب اختها نيتي لأن زوج الأم بدأ بالتحرش بها، تأتي الى سيلي لتعيش معها لكن الأمر لا يستقيم، فزوج الأخت هو الآخر يغازلها ويحاول التحرش بها وعندما تمتنع يطردها من البيت فيتم الفراق بين الأختين.
من الشخصيات المؤثرة في سير الأحداث شخصية شوغ إفري، المغنية السوداء الجميلة التي كان يحبها البرت في شبابه وحال أبوه دون الزواج منها، لقد حركت الساكن في حياة سيلي عندما جاءت لتقوم بجولة فنية في المدينة التي يقطنها حبيب الأمس، ومن إفري عرفت سيلي اسم زوجها للمرة الأولى، ومنها أيضاً اكتشفت ذاتها كامرأة عليها أن تعيد كينونتها ولا تستحق الضرب، فتُغرم هي أيضاً بشخصية إفري المسيطرة الحرة التي يعشقها الرجال، لكن التغيير نحو ذات متحررة سيأخذ من سيلي وقتاً أطول وهي تتلقى تعليمات إفري بمحبة وصبر، ورغم المعاملة البشعة التي تتلقاها من زوجها إلا أنها تحارب بكل الطرق من أجل استرداد حريتها. 
شخصيات كثيرة تُحدث تأثيراً في سير أحداث الرواية لتأخذها الى منعطفات تزيد من زخم التشويق والسرد الممتع لأليس ووكر، منها شخصية صوفيا، وهذه الشخصية الجامحة مثلتها أوبرا وينفري عندما تحولت الرواية الى فيلم من إخراج ستيفن سبيلبرغ، امرأة عنيدة لا تسمح لرجل أن يضربها، وعندما تزوجت من هاربو ابن إلبرت الذي كان يعتقد أن رجولته لا تكتمل إلا بضرب المرأة، ورغم قصة الحب بينهما، فقد ردت له الصفعة بمثلها وتعاملت معه نداً لند، ولم يقف أمامها أي رجل الا العمدة، الذي كان مع زوجته حين طلبت منها الأخيرة أن تعمل لديها خادمة فردت صوفيا عليها بغضب: اللعنة، أنا لا أعمل خادمة عند البيض، فما كان من العمدة الذي سمعها إلا أن يوجه لها صفعة فأوسعته ضرباً، وقام رجاله بجرجرتهاالى مركز الشرطة، وهناك اغتصبوها وضربوها ضرباً مبرحاً، ففقدت إحدى عينيها وبقيت في السجن ثلاث سنوات بتهمة إهانة زوجة العمدة، وبعد خروجها من السجن أجبرت على العمل خادمة في بيت 
العمدة.
تدخل أليس ووكر في هذه الرواية الى أعمق أعماق النساء من خلال العلاقة التي ربطت بين سيلي وإفري، بتفاصيل دقيقة وألفاظ صريحة عن العالم الجواني للمرأة وعلاقتها بالرجل، عن تلك المناطق الحساسة التي لا تعرفها سيلي مع زوجها، بل لا تحس بها إطلاقاً.. وفي النصف الثاني من الرواية ستأخذ الرسائل شكلاً آخر، وهي الرسائل بين الأختين بعد سنوات من الفراق كانت شوغ إفري سبباً في ذلك عندما اكتشفت رسائل (نيتي) التي كان ألبرت يخبئها عن سيلي، ومن هنا تأخذ الرواية منعطفاً آخر وتنتقل بنا الى إفريقيا حيث تعيش نيتي هناك مع عائلة صموئيل، وستكون الرسائل كشفاً لعالم إفريقيا الذي لا تعرفه سيلي، عن التاريخ والجغرافية وطبائع الناس وعاداتهم الاجتماعية وطقوسهم ومعاملتهم للنساء.. وتستمر الرسائل بين الأختين حتى نهاية الرواية، رسائل بوح وكشف وشوق باللقاء حتى يتم فعلاً ويغير الكثير مما كان سائداً، إذ لم تعد سيلي تلك المرأة التي تثير الشفقة، بل تسترد حريتها بعد طول عناء من دون أن تفقد إيمانها بالله، فلطالما كانت فتاة صالحة منذ أول رسالة كتبتها الى الله.