ذكريات متناثرة

ثقافة 2020/12/23
...

جبارالنجدي وعلي أبو عراق
 
يقول الشاعر علي السبتي الذي رافق جثمان الشاعر السيَّاب إلى مدينته البصرة، بعد وفاته في المستشفى (الأميري) في دولة الكويت في 24/ كانون الأول ديسمبر/1964. «كان ذلك اليوم ممطراً، فقد رافقنا المطر من الكويت حتى تشييع جثمان بدر إلى مثواه الأخير في مقبرة الحسن البصري بمدينة الزبير.»
وقال عبد الحميد السيّاب ابن عم الشاعر في حديث سابق “كان المطر حاضرا لحظة وضع تمثاله على قاعدته في البقعة التي تقع في مدخل شارع الكورنيش على ضفاف شط العرب، وهو المكان الذي شيدت فيه بناية مقهى (البدر) والذي كان الشاعر السياب شغوفاً بارتيادها”.
مرّ نحو (60) عاماً على وفاة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي توفي في أوج شبابه. ولم يتجاوز بعد الثانية والثلاثين من عمره، وهكذا تناسل الزمن وصمد إثر السياب الشعري العابق بروائح المطر.
في مقهى البدر الذي يقع قريبا من تمثاله، التقى السياب بعض أدباء البصرة وشعرائها في هذه المقهى الضاجة بالزبائن الذين يمثلون مختلف توجهات الشارع البصري آنذاك.
قال القاص والروائي محمود عبد الوهاب الذي رحل في الشهر نفسه في سنين تالية: “كنا مجموعة من الأدباء نلتقي في مقهى البدر وكان الشاعر بدر شاكر السياب يشاركنا أغلب هذه اللقاءات، إذ نختار طاولة تقع في زاوية من المقهى، الروائي مهدي عيسى الصقر والشاعر الراحل محمود البريكان والشاعر سعدي يوسف وأنا، وينضم إلينا أحيانا الشاعر رشيد ياسين، الذي كان يعمل معلّماً في مدينة القرنة حينها، ولعل من بين الأمور التي لا يعرفها إلّا القليل عن الشاعر السياب، أنه كان لا يتحدث بموضوعة تخص الشعر والأدب إلا نادراً، لكنه كان مجاملاً وفكهاً وينطوي حديثه على أمور
 طريفة.»
ويوضح عبد الوهاب “أذكر أن من بين الأمور التي حدثت في مقهى البدر وظلت راسخة في ذاكرتي، أن امرأة كانت تتردد على المقهى وتدّعي أنها قادرة على كشف المستور، أي أنها كانت تكسب رزقها من عمل يطلق عليه العامة تسمية (فتاحةالفأل)، فطلبنا منها أن تقرأ فألنا فقالت للشاعر السياب، إنك ستموت في ارض غريبة ميتة مبكرة، وأخبرت الشاعر محمود البريكان بموت عنيف ومفجع أما بخصوصي، فقالت (إنك ستقضي حياتك من دون رفيقة درب).
واستدرك “يا للغرابة لقد تحقق معظم ما تنبّأت به تلك العرافة بالفعل.»
واضاف عبد الوهاب “وعلى الرغم من أنني قلت أن السياب كان يندر ما يتحدث في موضوعة أدبية، لكنه ذات يوم وأثناء ما كنا مدعوين في بيت الروائي مهدي عيسى الصقر الكائن في محلة (السيمر)، اخبرنا بأنه منشغل في كتابة قصيدة جديدة عنوانها (المخبر)، وهي قصيدة أصبحت فيما بعد من قصائده الشهيرة، وما أذكره أن زياراتي له لم تنقطع خلال انتقاله للعمل في بغداد بوزارة التجارة (قسم المستوردة)، وقد زرته عدة مرات في بيته الكائن في منطقة (الكسرة) في بغداد آنذاك حتى تم نقله وظيفياً إلى دائرة الموانئ في البصرة.»
وتابع “وقد ذكر الروائي الراحل مهدي عيسى الصقر، بعضا من أحداث تلك المرحلة في روايته التي صدرت قبل رحيله بوقت قصير والتي عنوانها (المقامةالبصرية) وظهرت في الرواية أسماؤنا (محمودالكاتب)والمقصود أنا، ومحمود الشاعر والمقصود الشاعر محمود البريكان، أما الشاعر بدر شاكر السياب فقد جاء اسمه صريحاً كاملاً في الرواية.»
بدر شاكر السياب (24 ديسمبر/ كانون الأول/ عام 1964)، شاعر عراقي ولد بقرية جيكور جنوب شرق البصرة. درس الابتدائية في مدرسة باب سليمان في أبي الخصيب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودية وتخرج منها في أكتوبر عام 1938، ثم أكمل الثانوية في البصرة ما بين عامي 1938 و1943. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها من عام 1943 إلى 1947، والتحق بفرع اللغة العربية، ثم الإنجليزية. ومن خلال تلك الدراسة أتيحت له الفرصة للاطلاع على الأدب الإنجليزي بكل تفرعاته.
وروى الشاعر قاسم محمد علي الاسماعيل نجل الشاعر محمد علي إسماعيل صديق السياب الوفي وقرينه منذ الصبا جانبا من مذكرات والده عن الشاعر السياب “يذكر والدي في دفتر مذكراته أن السياب حينما كان راقداً في مستشفى الموانئ في البصرة، أرسل له أحد الأدباء الفرنسيين رسالة مكتوبة باللغة الفرنسية مع كتاب له بعنوان:(GENERATION OF MEN)، يسأله في رسالته عن فكرة الحج إلى جيكور وهذه الفكرة راودت الشاعر زمناً طويلاً.»
وأضاف إسماعيل “يقترح والدي في مذكراته عمل فيلم وثائقي للسياب يتحدث من خلاله أناس عاصروه، واقترح أيضا أن يكون (الفنانالأعمى) راوية لجزء من أحداث هذا
 الفيلم.»
وأضاف أن “والدي كتب في مذكراته أن بدراً كان يقرأ قصيدة (الموسيقى العمياء) للشاعر علي محمود طه المهندس، وكان الموسيقي الأعمى الذي ذكرناه عازفاً على آلة الناي أو (المطبك)، وهو من أبناء قرية الحمزة، مرة سهرنا معه في ليلة قمراء جميلة وكان بدر من بيننا، هذا الفنان اسمه (مويح) تصغير كلمة (مايح) وهو يسكن في قرية العوينات آنذاك وكان بدر يجلس مع (مويح) على تلة في جيكور ويسمع منه معزوفاته البسيطة.»
وأوضح إسماعيل حسب مذكرات والده “كتب السياب قصيدته التي مطلعها (قاد الخريف مواكب الأيام) على تلة قريبة من (كاع البسام) (كاع)- أرض، وكذلك في صدر العشار بالقرب من (كاع وبيت السيد عبد الرحمن الكامل)، وهي بالضبط في صدر الخورة الآن، وكان السياب وهو في الصف الأول المتوسط، والدار لا تزال هي الآن دائرة المرور الحالية كان كتب فيها قصيدته(في رثاء جدتي)، وهي إحدى قصائد ديوانه الأول (أزهار ذابلة)، وقرب نادي الطلاب على شط أبي الخصيب كتب السياب بيته المشهور: (فيح الظلال وقد نشرن ذوائبا/ قبّلن شط أبي الخصيب الشاحبا).. وتابع “هذا البيت ضمن ملحمته المفقودة (بين الروح والجسد).