مهما كان المستوى الحضاري للمجتمع، فخط تطور خفي، يتقدم خلال الحراك العام للحياة في ذلك المجتمع بدافع من الحيوية الثقافية المتاحة و تأثراتها بعصرها. والغريب ان السمات الاجتماعية، مثل جيناتها الوراثية، لا تفارق هذه الثقافة فهي والمجتمع يتصفان بها. إن لم يكن كليا، فبعض من القديم واضح في العمل، شكلاً او مضموناً او مذاقاً.
وهذا جانب تكون فيه الدعوة - ذات الوجهين – للمحافظة على الاصالة او على التراث، مقبولة مرفوضة، أو مقبولة بحذر أو تحفظ، الخشية هي من ان تكون دعوة ضد التقدم! فذلك جانب للتدخل ممن قد يهددهم الاغتراب كما يسمونه، بالخسارة.
من ناحية ثانية هم يريدون تأكيد ملكيتهم والحفاظ على سعتها، فيتدخل صاحب المال والجاه او السلطان لتزكية وجوده وتأكيد امتيازه بـ «رعاية» هذا الخط الثقافي الفني. وهنا يتشعب الحديث كما ترتبك النتائج، فنجد الاهتمام باللوحات التي تقدم الطبيعة او الوجوه البارزة المهمة في الحياة والتاريخ. وجه هذا الاهتمام واضح السر، فهو بعض من تأكيد الملكيات واصحابها او البارزين منهم او من أسلافهم، واحياناً من خدمهم او العائدين لهم.
هكذا التقت النقطة الثانية بالاولى وكأن لا فرق.
لكن لماذا ترتبك النتائج بذلك التدخل او كما يسمونه، وهي تسمية دقيقة، بـ «رعاية»؟ ذلك لان المال اولاَ لايصرف لسواد عيون الثقافة او لسواد عيون الفن وليست الثقافة وليس الفن من اهتماماتهم الاولى. هو يُصْرف من اجل ان يكون وسيلة تاكيد لأحقية دافعهِ بالامتياز والنفوذ وان يظل « راعياً « كما يقولون!
نعم هو له المظهرية والزهو ولا اعتراض على هاتين الغايتين، ما دام الفن وما دامت الثقافة تنموان وتتقدمان، لكن المسألة ليست بهذه السهولة، فهذا المال سيدخل في التقويم وفي الاتجاه وسيفعل فعله في نسغ العمل
الفني، سواء لا حظنا هذا ام خفي فلا نراه. فخلافاً لما يحدث في الكثير من مجالات الحياة في الثقافة والفن، المال لا يصلح للتقويم ولا يصلح دليلاً على الاهمية او على حقيقية التفوق. كتاب، شعراء، فنانون، تلقوا مالا وحظوا بالوجاهة، لكنهم ما كانوا مقنعين للنقد الادبي او للنقد الفني وليسوا موضع احترام «علمي « في الاكاديمية. وكتابات مهملة في زمنها، بلا رعاية وكتابها بائسون حقق عملهم مجدا بعد سنين وبعد ان غابوا عن عالمنا. قيل عن بيكاسو انه كان يمكن ان يكون واحداً من اكبر اثرياء العالم لو بيعت لوحاته في حياته بالاسعار التي بيعت وتباع بها الآن وبعد وفاته. هو فعل المستقبل!. هذه مسألة، مسألة اخرى ان الاسناد او « الرعاية» هي عادة لما ينفع مصدر المال او سينفعه لاحقاً، وهو يدفع لعمل شرط ان يرضيه! فنانون وشعراء كتبوا ورسموا «ما ينفع» بانتظار مردود «ينفع». ثمة تدخل مباشر او غير مباشر في جوهر العمل الفني، في موضوعه ودلالاته وثمة ارباك في البنية لقاء أجر!
لسنا في باب الادانة او اللوم، فنحن نقدر ضرورة العيش وحاجة الكاتب او الفنان للمال، قلة جداً من اصحاب
الفن اثرياء، هم غالباً من الطبقة المسحوقة او من الطبقة الوسطى الطامحة للأحسن. ثم هو ايضا، لا يستطيع ان يسوّق ويُعْرَف اذا لم يرض بان «يُرعى»!
هكذا ظلت العوارض قائمة بعد كل هذه المئات من السنين، لا اشارة تقول ستنتهي. على العكس، تطور المؤسسات الثقافية وتطور الطباعة وهيمنة التجارة – والمتاجرة بالفنون كلها وباصحابها جعلت العمل الفني والثقافي لا يختلف عن اي عمل ربحي، فهو business والربح شرط اساس للعمل.
هنا نكون بازاء حالين، اما التكيف للحال الجديد و الرضا بسياقاته، معتبرينها فنيةً واخلاقية، فنكون، وهذا حاصل الآن، قد استسلمنا او “ تطورنا” بهذا الاتجاه ، او في الحال الاخرى ، ان نظل واقفين في المفترق لا ندري ما نفعل في ظروف معقدة واشتباك علاقات وتنافس تجاري وسياسي.
كيف يؤكد الفنان قدراته ويسوِّقها ويكسب ما يمكنه من العيش ولا اقول الثراء، وهو يستحقه؟ دور النشر اليوم تتبنى كتّاباً ومترجمين وتكلف نقادا وتدفع لهم وتعلن لتسويق كتب تدر عليها ارباحا. كذلك للفنون، رسماً ونحتاً وسينما، مروجوها ووسائطهم لذلك وكل ذلك لا من اجل جوهر اي فن، ولكن من اجل جانبها السِلَعي. وصرنا نحن ايضا نلمّ بتلك الكتب والفنون من خلال تلك المؤسسات. ما العمل إذن؟ اهو الصمت والرضا ما دمنا لا نملك حلاً آخرَ؟ ما علينا الا الاعتراف بأن مسألة استقلال الفنان أومثالية الفن ، بعض من اوهامنا او هي مما
دائما نتمنى، و اظنها صارت أمنيات قديمة.