بعد نحو 41 عاماً من قيام الثورة الإسلامية في إيران، وترسّخ المفكّر وعالم الاجتماع علي شريعتي، بوصفِهِ صوتاً من أصواتها العالية، وصانعي أُطُرِها الفكرية، الصوت الآيديولوجي الذي يحاول أن يعود بـ"التشيّع العلويّ" إلى جذوره، بعيداً عن "التشيّع الصفوي"، كما يقول كتابه الشهير: بدأت ولادةُ علي شريعتي الآخر، أمامنا نحن العرب، الذين قرأنا "فاطمة هي فاطمة"، و"الإمام علي (ع) في مِحنه الثلاث"، و"العودة إلى الذات"، وغيرها من كتبه الممتعة، التي كان أغلبها محاضرات يلقيها أمام الشباب، وفُرّغت وحُرّرت لتكون كُتباً.
وبنيل المترجم العراقي حسن الصرّاف، جائزة الشيخ حمد للترجمة، عن ترجمته كتاب "الصحراء" لشريعتي، تعود للواجهة نصوصه التأملية، الذاتية، الإنسانية، غير المحكومة بزمانٍ ولا مكان، لا شأن لها بما يدور، وكأنها جزيرته المنعزلة وسط ما يحدث من احتدامٍ سياسيّ، لم يؤثر على إيران فحسب، بل وعلى المنطقة والعالم.
"الصحراء" هي عُصارة ذات شريعتي، كتابٌ يختلفُ تماماً عمّا كُتب، نسخةٌ من جبران، ربّما أُبالغ إن قلتُ إنها أعمق، وأكثر اتساعاً وحريّةً بكتابة النثر، ثمّة متأملٌ عجيبٌ تحت ثياب المفكّر الإسلامي، وعالم الاجتماع المتخرّج في السوربون، يمرّ على الدين وعلى التشيّع وعلى كلّ شيء آخر مروراً مُختلفاً، ثمّة شريعتي ثانٍ يخرجُ لنا، مُعذّباً وحيداً وتائهاً، يبحثُ عن الدرب داخل نفسه، يستقرئُ الطبيعة والتاريخ والبشر وذاته نفسه، داخل هذا الكتاب العجيب.
لم يكن هذا النصّ الذاتيّ وحده الذي رأى الترجمة، مؤخراً في السنوات القليلة الماضية، فشريعتي العاشق، المتعلّق بـ"بوران"، زوجته وحبيبته، صدرت رسائله لنا عن "درابين الكتب"، لطفه وعذوبته في هذا الكتاب، لا تشبه ما يكتبُهُ تماماً، إنها لحظة العُري أمام المحبوب، الاشتياق له، والإنصات للروح المتعطّشة لشريكها.
كتابٌ آخر، بترجمة "حسن الصرّاف" أيضاً، وهو "ثالوث العرفان والمساواة والحرّية"، وجد طريقه إلى النور، الكتاب المختلف بشكلٍ كبير عن منظومة شريعتي التأليفية التي نعرفها بنحو 15 كتاباً، ترجم أغلبها ابراهيم الدسوقي شتّا.
خفت جمرُ الثورات، ومضت السياقات الآنية التي حكمت نصّ وكلام شريعتي، وحين انجلى الغبار والصراعات، ظهرت "الصحراء" مورقةً خضراء، بماء الذات ومعرفتها.
مبارك لحسن الصرّاف!