من المُلفت في هذا العصر، هو استشراء ظاهرة الكتابة الروائية وتداولها عبر المكتبات ومواقع التواصل الاجتماعي، وطغيانها على كثير من الاهتمامات الفكرية والثقافية والأدبية الأخرى، التي ينبغي للقارئ المثقف - على أقل تقدير- أن يتزوّد من تلك المعارف بقدرٍ متساوٍ، ويُوازن في قراءاته تلك؛ ليخرج بحصيلة فكرية طيّبة الأثر عليه فيما بعد، وتُشكِّل ذائقته النقدية بمستوىً عالٍ من الحنكة والدراية بثوابت عصره ومتغيِّراته، وتجعله مُثقَّفًا محصَّنًا برُؤاه، مؤثِّرًا في من حوله، ولو التفتَ هذا القارئُ الهائم في وادي الروايات، إلى عظماء الرواية وأفذاذها في مشارق الأرض ومغاربها، وبحث عن حواضنهم الفكرية التي نفخت في أقلامهم مداد الرواية وروحها، فأطلقوا روائع الروايات وأثّروا في أجيال من الروائيين جاءت بعدهم، لوجدهم من أولئك الذين تمترسوا فكريًّا وفلسفيًّا، وتذوّقوا مرارة الحياة في كثيرٍ من تجاربهم المعيشة، فصدر عنهم بعدها ما صدر من روائع خالدة بقيت إلى يوم الناس هذا مهوى أفئدة المتأدِّبين من القرّاء بصفة عامة والمثقفين بخاصة، ممّن كوّنتهم صيرورتهم النقدية والفكرية من نواة تلك الرؤى والأفكار التي استَقَوها من تلك المتون. ولعل هذا الحال ليس حكرًا على الروائيين فحسب، بل هو شأنٌ عام ينطبق على مُجمل الفنون والأجناس الأدبية. فالاستسهالُ في النشر صار سمة هذا العصر، كما الاستسهال في منح الشهادات العلمية العالية، كما الاستسهال في افتتاح كثير من الجامعات والكليات والأقسام من دون خطةٍ علمية محكمة تتطلبها احتياجات الواقع وضروراته العلمية. وجرَّ هذا الأمر إلى مُضاعفات سلبيةٍ ابتعدت كثيرًا عمّا يُراد للأدب أو للثقافة بشكلٍ خاص من وظيفةٍ تؤدِّيها في المجتمع، ومن دونها يخلو ذلك الوسط من رصانةٍ فكرية تمنحه الشجاعة في الموقف أو الخيار الثقافي الذي يجنح إليه؛ ولذلك كانت النتيجة أنْ تجد نخبةً حاكمة فشلت في كل ما سطّرته من وعود، يُعاد انتخابها مرّةً بعد أخرى، أو تجد من يرتِّب لها الأجواء السانحة لتمارس دجلها السياسي بثوبٍ آخر، وهكذا تضيع الثمرة التي يطمح المثقف لنيلها من تلك المنجزات الأدبية الباهتة اللون – على أقل وصفٍ يمكن لنا أنْ نطلقه عليها- وعلى أثر ذلك الضياع، تستمر دور النشر في بثّها ركامًا من تلك الروايات، ولم يقف الترويج لتلك الروايات عبر تلك الدور التي لا يبحث أكثرها إلا عن الربح السريع، عبر تخطّيها كل الشروط الفنية أو الفكرية التي ينبغي الالتزام بها لمن يتصدّى لمهمة النشر، فهي مسؤولية لا يتحسّسها من لم يعجم عود الثقافة الرصينة بشكلٍ صحيح، التي من خلالها يتشكّل وعيه بالحاضر وفهمه للماضي ورؤيته الجادة للمستقبل، بل سرى ذلك التساهل إلى مؤسسات «ثقافية» أو أكاديمية، أجازت لنفسها منح الألقاب أو الجوائز أو الدراسات لبعض تلك الرداءات في عالمنا العربي، وبهذا التفشّي المريع، تصعب المهمة أمام القارئ المبتدئ الذي يريد لمكتبته أو لثقافته أنْ تتقوّم فكريًّا أو أدبيًّا عبر ما يختاره من ذلك الركام، مستعينًا تارةً بما لم يؤهَّل للحكم على جودة تلك الروايات من عدمها، وما أكثر أولئك المتصدّين للحديث عن الروايات، وهم لا يملكون الثقافة الروائية الممتازة للحكم عليها بالجودة أو الرداءة، ويقينًا ستبقى المعاناة في هذا الطريق، ما لم يتصدّ الأفذاذ – وهم قلّة- لإنارة الطريق وكشف زيف من تسلّل لواذًا إلى هذا الحقل الذي مُورس بحقه الإجحاف ثقافيًّا وفكريًّا، وهذا ما نتأمّله في البقية الباقية من أساتيذنا الكبار، هؤلاء الذين لا تأخذهم بهرجة الأقاويل والأوصاف الرنّانة، كما جاء وصفهم في ضمن كلام ذكره الجمحي لخلف الأحمر – أحد علماء الشعر ورواته الكبار- يرد به على من يزهد برأيه في الشعر: ((إِذا أخذت درهما فاستحسنتَهُ فَقَالَ لَك الصرّافُ إِنَّه ردئٌ فَهَل ينفعك استحسانك إِيَّاه)) وهذا هو شأن الكبار في كل زمانٍ ومكان، وما أحوجنا إلى صراحتهم في هذا
المقام..