خلال الأسبوع الماضي كنت في منتصف ليلة باردة بمستشفى من مستشفيات بغداد، كانت سيدة قريبة للأسرة تعاني سكرات الموت بأمراض الشيخوخة، وكنا نحاول أن نكون قريبين من أبنائها في مثل هذا الموقف الأدعى للتضامن الإنساني. حاولت ومعي آخرون أن نكون في الخارج من ردهة المرضى، كنا نستجيرمن برد ليل كانون بفسحة مفتوحة جنب جدار ردهة أخرى، وكان جداراً مغلق النوافذ، والنوافذ مسدلة الستائر. وحين دفعني الفضول للتطلع في الراقدين بهذه الردهة الثانية من خلال نافذة أزيح عنها الستار فجأة.
فقد ذَهلت لمرأى الراقدين الذين عرفت أنهم من ضحايا كوفيد – 19، ومن الحالات الأشد خطورة. كان في هذه الغرفة شيخ يتشبث بالحياة عبر جهاز للتنفس، وإذ أخفقت في الأخير محاولاته، فإن كل شيءركد بعد لحظات استسلم إثرها الشيخ لرقدة ِراحته الأخيرة وقد كشف هدوؤها وصمتها فظاعة ذلكَ التنازع مابين الحياة والموت.
بالنسبة لي كانت تلك اللحظات أقرب إلى الكابوس، وكان المشهد كلُّه طوراً من أطوار كابوس عام 2020.
هذا العام هو كابوس كوني، وقد كان من الشراهة البشعة بحيث صار أطول من تقويمه، فقد سبق أوانه في تقديم مآسيه وقد ابتدأت مع خريف العام الماضي 2019، ثم ها هو يزحف بهذه المآسي إلى العام المقبل الذي سيليه 2021.
ليس الناجي من هذه الشراهة بالسعيد، وليس الحيّ المتضررُ منها بالآمن على الآتي من الأيام.
هذه تراجيديا لم تقترن تعاستها بحدود أفراد ولا بطبقة أو بلد أو قارة. لم تتوقف آثارها الثقيلة عند مرفق محدد من مرافق الحياة والعيش. في لحظات وأيام بدت حياة الناس والشعوب كما لو أنها مزيج غامض من بدائية متوحشة وحضارة لم نألفها تماماً. نفور من الآخرين تقابله حاجة حقيقية إليهم، نزوع صعب نحو العزلة الفردية مقابل مصير يمكن أن يلتهم الجميع، وكم من المجاميع، في الحفلات والمناسبات والأعياد ومباريات الكرة، مَن كانت وسطاً حيوياً لانتقال الموت وسريانه وتفشيه!
لم يتقدم خبر على أخبار الموت. حتى الحدث السياسي الأول في هذا العام، وهو بتقديري حدث الانتخابات الأميركية، لم يتحرر من هذا، فقد كان الوباء ومآسي 2020 في العمق العاصف بالنتائج التي تمخضت عنها الانتخابات سواء بأثره في قضايا الخلاف ما بين المرشحَين، أو بتعديله آلية الانتخاب بما يضمن مشاركة الملايين بالتصويت وبما يستجيب لظروف المواطنين وسلامتهم هناك في الولايات المتحدة.
لقد بدا هذا العام بطيئاً وثقيلاً، وهذه من مزايا أيِّ ضيف لا تُحتَمل رفقته.. زمن الكوابيس هو الآخر يكاد يعادل دهراً بالنسبة لمن يرزح تحت وطأته اثناء النوم. وكان المجتمع الإنساني بمجمله، وفي نومه ويقظته، ضحية لكابوس 2020، كوفيد 19.
بالنسبة لنا في العراق كانت أشد أيام العام كآبةً هي أيام أسابيعه الأولى. أعباء أسابيع الوباء الأولى وصدمة أخباره والحجر والقيود التي يضعها الإنسان نفسه حول حياته، ناهيك عن القيود العامة المشتركة، لتفادي الإصابة، كان ذلك رعباً حاولت شخصياً تفاديه بالانغماس بالكتابة والتأمل بها، فكان كتابنا المشترك، أنا والدكتور لؤي حمزة، عن الحياة المهددة بالوباء.في لحظات من زمن تأليف الكتاب بدت لي تلك الكتابة اليومية أشبه بعمل أوركسترا تايتانك. من الممكن درء مشاعر الخوف بالانقذاف فيه، بالغوص في عالم الخطر والخوف نفسه، وإلا ما الحل في هذا التنازع الصعب ما بين الحياة والموت!
خلال هذه العام كان العالم كلّه تتنازعه إرادتان متعارضتان؛ إرادة الموت المستبد، وإرادة الحياة المتوسَّلة، فكانت هذه هي هوية هذا العام الذي بقينا ننتظر ونستعجل نهايته، وهذه حيلة الأمل الأخيرة.
في معظم الأحيان كانت البشرية قبل هذا العام تتطلع إلى انتصار إرادة الحياة، جانب من العلم والحضارة كان يتقدم، ولو بطيئاً، لصالح إطالة أمد حياة البشر، لكن جوانب أخرى من العلوم والحضارة كانت تمضي بنا نحو الموت؛ تدمير مهول للبيئة والطبيعة، تفنن سادي في ابتكار الأسلحة ووسائل الموت، تغذيات سياسية واقتصادية للحروب..لسنا واثقين تماماً ما إذا كان الفيروس نتاجاً مباشراً أو غير مباشر لعمل المختبرات والعلوم ولجهود علماء ومخابرات، لكن ما هو أكيد لنا أن ما أُنفق ويُنفَق من أجل التسليح ومختبرات ومصانع القتل لو كان قد سُخّر لصالح الحياة والحفاظ عليها والتقدم بها لكانت حضارتنا الآن وكوكبنا وبلداننا في طور آخر أكثر سعادةً ورفاها
ً وسلاماً.
النتيجة التي انتهت إليها البشرية من هذه الفوضى والعمل اللا مسؤول هو أن نصل إلى كارثة 2020، إنه عام من البؤس بحيث أن أيقونته الكونية هي (كمامة).
(الكمامة) وقد باتت أيقونة، ومن ثم جزءاً عضوياً من اللباس وقد أُكره الملايين على ارتدائه، فيما تفننت شركات بأن جعلت منه بعضاً من نظام أزياء المتأنقين من ناس 2020، كما استخدمت الكمامة كلوحة دعائية وإعلانية، لكنها في كل حال باتت تختصر، بحضورها القسري، نتائج الوباء الوخيمة على الناس وحياتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم ببعضهم. ومن نتائج هذه المحنة تنامي مشاعر الخوف من الآخر. الآخر، وكلما تضاعف الجهل به، بات مصدر تهديد. لا يريد المرء في مثل هذا الوضع التفكير بتبادل وضع الخطر ما بينه وبين الآخرين، ما يهمه قبل كل شيء، والحال هذا، هو حماية الذات من التهديد المتمثل بالآخر. لقد صادفت صديقاً وجوديا ووسواسياً، وكان يقترح تعديل عبارة سارتر الشهيرة (الآخرون هم الجحيم) لتكون هم الوباء..
هذا سلوكٌ من نتاج العام الآفل، ومن غير المتوقع التخلص من نتائجه العرضية قريباً. لكن من المتوقع أن استمرار الحياة تحت هذا التهديد، وكلما طال الزمن، قد يرسّخ تقاليد وممارسات مبدأها الخوف والقلق وشيوع الأنانية والجنوح للعزلة والانطواء.
لكن الأثر الأكثر تدميراً هو أثر هذا العام، والعام كنية عن الوباء، على الأطفال. من المفارقة أنهم الأقل تضرراً صحياً من الوباء لكنهم مهددون بمستقبلهم، بمعرفتهم وذكائهم، من خلال تشوّه أنظمة التعليم في العالم ككل.
هذه واحدة من أخطر زوايا النظر إلى تأثير عام 2020 على ما سيليه من أعوام. إنه عام مستبد بتدمير كل ما يمكنه تدميره.
سيأفل هذا العام.. ملايين البشر يعانون من الوباء في آخر أيام العام، مئات الآلاف من الأسر نكبت خلاله بأعزاء، الصحة النفسية لمعظم سكان الأرض تعرضت لما يربكها. ومن ثم فإن الأعياد ستكون مناسبة لتقليب المواجع، بينما في العالم الآن هناك من يتهيأ للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، هذه سنّة الحياة في مقاومتها وتحديها الموت. لكن أحسب ان المحتفلين سيكونون سعداء بمفارقة عام كان كابوساً أكثر من تفكيرهم بعام جديد يطمحون أن يكون عام صحوة تامة من الكابوس وتداعياته العاصفة في الصحة والاجتماع والسياسة
والاقتصاد.