لم يعد ذلك الكائن بالوبر القصير المقزز، ذاك الذي يخشاه النساء والرجال، الصغار والكبار، لأنه مقترنٌ دائماً بظلمةِ المجارير ودَرنها، حين تروي السرديات الشفاهية عن قضمِهِ لأنف رضيع، أو تسبّبه بقطع كابلٍ رئيسيّ للكهرباء في الحي.
هامشيّ حتى في قصص الأنبياء والحضارات، رغم أنها احتفت بجميع الحيوانات وذكرتها، من أفعى آدم مروراً بفأرة بلقيس وذئب يوسف، وليس انتهاءً بحماريْ عيسى ومحمّد، هو الجرذ، كائن الهامش، الذي لا يُربى، ولا يتم اصطياده، ولا الانتفاع به بأيّة طريقة من
الطرق.
تلك حقيقة من «حقائق الحياة الصغيرة»، أو تأويل لها، الرواية التي أصدرها د.لؤي حمزة عباس، عن دار المتوسط.
الجرذُ يرتفعُ إلى المتن، ليس للبطل، أو حتى الرئيس الذي حاول ضربه برصاصة شرق البصرة، ولا انتقاماته من أعداء البطل، دورٌ كما للجرذ، كما لو أنّ لؤي قرّر أن يصنع السردية الغائبة، سرديّة مَن لا سردية له، ولعلّ هذه الاحتفاءات المكانية والمعتمدة على الكائنات الحية، وحتى الزمانية، تشير إلى سعيه لكتابة ما لم يُكتب.
حين كتب لؤي «كتاب المراحيض»، كان الأدباء يستخدمونها ويأنفون من ذكرها، وكذا الحال حين تمرّ سحليّة في قصة قصيرة، أو ذئبٌ عابر، أو أقزام
مُتخيّلون.
الجرذُ «العليم»، كان مركز الرواية، المظلم، وما حديثُ البطل معه، أو صناعته منقذاً من هذا المخلوق الغريب، إلاّ الرغبة البشرية برمي كلّ ما لا نُجيده، من شجاعة وبلاغة وفروسية إلى الجانب المظلم، فهو مَن سيتولّى الانتقام لبطلنا المُتنَمَّر عليه، وهو أيضاً مَن سيعاقبُ المدرس الظالم الغشوم، وهو أيضاً مَن ستتم مُناجاته ببلاغة
كبيرة. بين ظلمة المجارير، وبين العالم المُتطلَع له في بوسترات البلدان السياحية، وبين قلق اللحظة والحرب العراقية – الإيرانية، يعيش البطل هذه الوضعية الحرجة، الوضعية التي لا يستطيعُ إلاّ جرذٌ يعرفُ كلّ شيء، ويُجيد كل شيء، التعامل معها.
ثم على المجال الشكلي، البِنائي، يكتب لؤي حمزة بشكلٍ تجريبيّ جديد، ربما سيتيح مجالاً لكثير من الهواة لتقليده: الكتابة وفق البارتات الصغيرة، حيث لا يتجاوز البارت الواحد أكثر من 400 كلمة، كحدّ
أعلى.
ثمّ أن هذا الكتاب، درسٌ بالحساسيّة اللغوية، وتلمّس المفردة بيدين مجرّدتين، كمَن يتلمّس ثمرة
خوخ!