د.حسن الياسري
الفساد بالأساس ظاهرة اجتماعية في المجتمعات البشرية. إن البيئة الاجتماعية بما تملكه من مجموعة كبيرة من الوسائل، التي تمثل آليات الضغط الاجتماعي، لها الأثر الكبير بالتأثير في الفرد. فالفرد بالنتيجة هو جزء من النظام الاجتماعي. ومن المعروف أن لكل نظام اجتماعي قيمه الموروثة، التي تبرز على شكل ضوابط سلوكية يخضع لها الفرد، خشية تعارض رغباته وحاجاته مع الآخرين. لذلك ينظر علماء الاجتماع إلى الفساد بكونه (علاقة اجتماعية) تتمثل في الخروج عن القواعد المستقرة في المجتمع المتعلقة بواجبات الفرد إزاء الآخرين.
إنَّ الفساد يمكن أنْ يتفشَّى في المجتمعات الصغيرة التي تتميز فيها العلاقات بين الأفراد بطابعٍ شخصيٍّ واضحٍ، و تبرز فيها أهمية ما يسمى (الرصيد الاجتماعي للفرد) أي قدرته في التأثير في الآخرين .
فالعلاقات الاجتماعية ومدى ترابطها أو تفككها لها الدور الكبير في تفشَّي الفساد أو انحساره. ولعلَّ من المفارقات أنَّ هذا التماسك في بعض المجتمعات، لاسيما في الدول النامية -ومنها دولتنا -، يعدُّ من أسباب تفشي الفساد وانتشار مجموعةٍ من أفعالهِ، مثل الواسطة والمحسوبية والمحاباة. ومن جهةٍ اخرى فإنَّ غياب القيم في المجتمع وعدم الاهتمام بغرس قيم الفضيلة والخير والمساواة، في مقابل قيمٍ اجتماعيةٍ أخرى تقوم على الولاء والانتماء لعشيرةٍ أو حزبٍ أو جهةٍ معينةٍ، يؤدي الى تخفيف حدة النظر الى الفاسدين بكونهم فاسدين، بل سيُنظر اليهم بوصفهم سنداً وقوةً،وربما فخر،وهو ما يؤدي بالمحصِّلة إلى استفحال الفساد، ومن ثم التأثير في إضعاف سياسات مكافحتهِ.
وكلُّ ذلك يؤشر ضعف المجتمع وعدم حصانتهِ، وتراجع دور المدرسة والجامعة والمسجد،وغير ذلك من مؤسسات المجتمع، في تحصينهِ ضد الفساد. فالحقُّ أنَّ تغوُّل الفساد في المجتمع لهو دليلٌ قاطعٌ على وجود (خللٍ اجتماعيٍّ) في التركيبة الاجتماعية، وهكذا كلما ازداد الخللُ كلما تصدَّع جدارُ المجتمع في مقابل الفساد، الأمر الذي يسمح للأخير – الفساد- بالنموِّ والترعرع،حتى لا يكاد يُنظر إليه بوصفهِ جريمةً، وإنْ كان الجميع ينكرونه بألسنتهم ويتظاهرون ضده، إذ سيصبح سلوكاً متأصلاً حتى في نفوس بعض من ينكرونه بألسنتهم ؛ فينشأ ما يمكن تسميته (الفساد المجتمعي أو الاجتماعي)، وهو الفسادُ الناجم من المجتمع.
وبتقديري الشخصي إنَّ هذا الفساد، وما يضمّه من عوامل وأسبابٍ اجتماعيةٍ لهو الأكثر خطورةً مما سواها من أسبابٍ وعوامل سياسيةٍ واقتصاديةٍ ونحوهما. وعموماً يمكن بإيجازٍ إيراد أهم الأسباب والعوامل المتسبِّبة في هذا النوع من الفساد بالآتي:
1 - نمطُ العلاقات والأعراف بين أفراد المجتمع:
فلقد ذكرنا آنفاً أنه كلما قويت هذه العلاقات والروابط بين أفراد الطائفة الاجتماعية الواحدة، وازدادت الولاءات للعشيرة وللحزب ونحوهما، كلما كان ذلك عاملاً مساعداً لنموِّ الفساد. إذْ سيميل المسؤولون التنفيذيون وسائر الموظفين العموميين لتفضيل أقربائهم وأصدقائهم، وستنتشر أفعال الواسطة والمحسوبية والمحاباة على حساب المصلحة العامة .
2 - ضعفُ الوعي الاجتماعي:
فكلما ازداد الفقرُ وساد الجهلُ في المجتمع كلما كانت الأرضية خصبةً ومهيأةً لنموِّ الفساد، ولبروز نجم بعض الجهلة الذين يتبعهم المجتمع، حتى لو كانوا أئمة الفساد، إذ سيُنظر إليهم كأنبياء ومخلِّصين، ما دامت الكلمة الفصل في المجتمع للجهلة وأتباعهم، وليس لأرباب الفكر والمتنوِّرين. كما أنَّ هذا الجهل وضعف الوعي الاجتماعي سيولِّدان حالةً من السلبية واللامبالاة في المجتمع، الأمر الذي يؤثر في سلوك المواطنين الذين سيكونون جزءاً من منظومة الفساد من دون رفضٍ منهم.
3 - الشعورُ بالمظلومية والانتقاص:
أحياناً يشعر المجتمع أو فئةٌ منه بالمظلومية، وأنهم ضحيةٌ للآخرين، فيتولَّد لديهم شعورٌ نفسيٌّ داخليٌّ بضرورة تعويض ذلك، وسيكون التعويض – بحسب اعتقادهم- عند توليهم الوظيفة العامة؛ إذ سيسارعون إلى نهب المال العام. وحتى لا يقعوا في الخطيئة وتأنيب الضمير سيقولون في أنفسهم إنَّ ما يأخذونه من المال العام ما هو إلا جزءٌ يسيرٌ لتعويض مظلوميتهم وانتقاصهم وإعادة حقهم المهدور. وفي هذا الإطار يلعب الإعلامُ المغرض دوراً كبيراً في تغذية هذا الشعور.
ومن جهةٍ أخرى تشعر بعض الفئات الاجتماعية بأنَّ الوطن ليس وطنهم، بل هم ضيوفٌ عليه، ويحسبون الأيام لتغيير هذا الواقع بصورةٍ أو بأخرى؛ لذا سيتعاملون مع المنصب والوظيفة العامة كما لو كانت مؤقتةً وإلى زوالٍ؛ وهي فرصةٌ للتربُّح، وليس مقصدها الخدمة العامة، فيسارع بعضهم لاستغلال الفرصة لنهب المال العام بأية طريقةٍ كانت. وللحديث تتمة في الجزء الثاني إنْ شاء الله