خالد خليل هويدي
يشير الدكتور على جواد الطاهر رحمه الله في معرض كلامه على صفات الباحث الجيد إلى أنّ من بين أهم الصفات، التي يجب أن تتوافر في الباحث العلميّ قدرته على الاستغناء عن المادة التي يجمعها، والإبقاء فقط على المادة التي تنفع موضوع بحثه، فليس كل ما يُجمع على مستوى واحد من الأهمية، وهذا تحدٍ لا ينجح فيه إلا الباحثون الحقيقيون، بخلاف أشباه الباحثين الذين يدرجون كل المادة العلمية التي يجمعونها؛ لعدم امتلاكهم شجاعة التخلي. ويمكن إدراج هذه الصفة في إطار ما وضعه الفقهاء تحت باب(فقه الأولويات)، وهو باب مهم، إذ يجب على كل مسلم أن ينضبط عنده ميزان الأولويات بشكل صحيح، لكي لا يقدِّم المهم على الأهم، كمن يحرص على أداء بعض النوافل والمستحبات ويفرِّط في أداء الفرائض والواجبات، وكان ابن عمر يقول لمن شارك في قتل الإمام الحسين عليه السلام: ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله وتسألون عن دم البعوضة! ولا يمكن للفرد اللجوء إلى ستراتيجية التخلي إلا على كِبر، أي إنها ترتبط بكمية الوعي والخبرة في التعامل مع المعطيات، وهو ما عبّر عنه الكاتب المصري أسعد طه، الذي رأى أنه من البديهي أن تتخلّص من كل ما هو ضارّ أو غير مفيد، لكنّ المعضلة الكبرى تتضح في أن تستغني عمَّا هو مفيدٌ لصالح ما هو أكثر فائدة؛ وذلك لأنَّ المجال لا يتَّسع للجميع، فالأصل هو أن تمتلك الأشياء لا أن تمتلكك الأشياء.
ويمكن التمثيل لثقافة التخلّي والاستغناء بما يقوم به المخرج، الذي يسجّل ساعات تصوير طويلة لكنه في النهاية لا يستبقي إلا على ساعتين فقط، وربّما أقل، تخيّل فقط المعاناة التي يعيشها
المخرجون!
قد يتعلّق الإنسان بأشخاص يتصوَّر أنَّ حياته لا تستقيم إلا بهم، لكنّ الزمن قد يضطره إلى التخلّي عنهم، ومع ذلك يكتشف أنَّ الحياة يمكن أن تستمرّ من دونهم.
إن التخلّي قد يكون صعبًا في بادئ الأمر لكنك بعد ذلك ستشعر أنَّ الأمر طبيعيّ، وقد يتحوّل ذلك التخلّي إلى شعور براحة واطمئنان رائعين، وستكتشف نفسك كأنك لم تكن تعرفها من قبل، ذلك أنّ من لا يستطيع التخلَّي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء، كما يقول نيتشه.
إن التخلّي عن عقدة التاريخ لا يشكّ في أن سيسير سريعًا بك نحو المستقبل؛ لأنه سيخلِّص الإنسان من كل ما يعوقه في حاضره، فالتخلّي يمكّن الفرد من تحقيق التجلّي.