حب بطعم الانتماء الصعب

آراء 2020/12/28
...

 رفيف الشيخلي

 
 
الحب، تعبير عن قوة الإحساس، والعلاقات التي تتخذ من هذا الشعور مظهرا من مظاهرها كثيرة ومتنوعة، لكن الحب، كشعور في حد ذاته يعرف هو أيضا الكثير من الصراعات والتداخلات مع مشاعر أخرى، منها الغيرة والرغبة في التملك، أو جعل الآخر المحبوب نسخة منا، ومنها تحميل المحبوب مسؤولية مشاعرنا تجاهه، والحالة الأخيرة تنطبق على الكثير من الأشكال، لكنها تظهر بوضوح جلي في علاقة الآباء بالأبناء.
فلنتفق في البداية على أمر واضح، وهو أن لا أحد منا اختار أبويه، بل جئنا إلى هذا العالم ووجدناهم قد اختاروا أن يلدونا، مع العلم أن أغلبنا كان نتيجة نزوة لم تحسب نتائجها. واختاروا لنا اسما، ومكان ولادة، وجنسية، ثم قاموا باختيار طرق تربيتنا، ومدارسنا وملابسنا وكل شيء، كل هذا من دون أن يسألونا عن رغبتنا نحن! بمعنى أوضح، فالأبناء لا يد لهم في كل ما يعنيهم منذ فترات الحمل وإلى سنوات المراهقة، وقد يستمر ذلك أطول، بعبارة أشد وضوحا، الآباء هم من اختار ذلك وفعلوه، لسبب من الأسباب، إما رغبة في تقليد المجتمع بإقامة أسرة، أو تعبير عن حب متين للطرف الآخر (الزوج أو الزوجة) وبالتالي، فإن العبارة التي يرددها كل الآباء حين يغضبون من أبنائهم "أنا أبوك" أو "أنا أمك" هي غريبة نوعا ما، لأننا لسنا نحن من توسل إليهم كي يكونوا كذلك، بل العكس هو الصحيح، لولانا، لما كانوا يحملون لتلك الصفات التي تقدم لهم مكانة اجتماعية، خصوصا في بلداننا المشرقية.
نحن الأبناء نكبر، ونشعر أن حبالا عديدة تربطنا بالوالدين، حبل السّرة قطع بعد ولادتنا مباشرة، لحسن الحظ، لكن هناك حبالا عاطفية كثيرة أخرى لم ولن تقطع، إلا أنها قد تصيبنا ببعض التوتر، نشعر حيالها بتناقض غريب يرغمنا على طرح العديد من الأسئلة، وقد نصاب بالكثير من الأمراض، يكفي أن نقرأ كتب التحليل النفسي كي ندرك أن أغلب الصراعات التي يعاني منها الأفراد، هي بسبب الأهل والتربية، ألم يؤكد فرويد أن الخمس سنوات الأولى هي المحدد للشخصية؟ الآباء يربوننا ويزرعون فينا منذ الصغر أفكارهم وقيمهم وتقاليدهم، ثم يتدخلون في اختياراتنا بعدة أساليب وكأنهم لا يثقون من حسن تصرفاتنا، ألا يؤول ذلك إلى عدم ثقتهم بتربيتهم؟ يريدون منا أن نكون ناجحين، مميزين، ونثبت ذواتنا، لكنهم في الوقت ذاته يخافون علينا من التجارب والفشل، كيف سنتمكن من إثبات أنفسنا إذن؟ وهل يمكن النجاح من دون فشل؟ 
وفي أي سوء فهم أو نقاش يشعروننا أننا أسأنا إليهم، أو لم نفهم حبهم وخوفهم علينا. مع أنهم هم من يعلمنا أن نتحكم بمشاعرنا، ولا نندفع وراء العواطف. فنمضي في هذه الحياة بين صراع إثبات حبنا لهم، ومحاولة عيش حياتنا كما يحلو لنا، كأنهم ينسون أنهم كانوا أبناء أيضا قبل زمن، وربما ما زالوا. وأنهم يعانون أيضا من صراعات العواطف التي نعاني منها. 
أيها الآباء، نحن نحبكم، ونعي جيدا أننا مدينون لكم بكل شيء، فأنتم في النهاية مصدر الأمان والانتماء. أنتم سبب وجودنا كله. لكن، لا تجعلونا نشعر بالتأنيب فقط لأننا اخترنا طريقا غير ما مشيتم عليه، ولا لأن شخصياتنا تختلف عنكم. نفهم خوفكم، ونرجوكم أن تتحكموا فيه قليلا فقط، لأنه يشعرنا بعدم القدرة على اتخاذ قرارات قد تحدد مصيرنا. 
فنحن في النهاية كائنات مستقلة عنكم. جسديا وقانونيا، ولا بأس إن أخطأنا، هكذا سنتعلم بشكل أفضل.
مع كل الحب لجميع الآباء.