رواية «صاحب الظل الطويل» للروائية جين ويبستر من الروايات التي عبرت الأزمان مثل كثير من الروايات التي حجزت لها مكاناً على خارطة الأدب العالمي، كُتِبت في العام 1912 وتحولت الى أفلام سينمائية ومسرحيات موسيقية ومسلسلات، وكذلك لفيلم كرتوني، (عربياً اقتُبست لفيلم بعنوان «ابنتي العزيزة» لكن للأسف لم يُشر الى المصدر كعادة الكثير من الأفلام التي أخذت عن نصوص أجنبية، وأيضاً لم يكن الفيلم بمستوى الرواية وعمق رسالتها)، إنها من الروايات القليلة التي تمنح القارئ متعة كبيرة فيمسك بها حتى النهاية، فما الذي جعل هذه الرواية تعبر زمنها وتستعصي على النسيان؟
سندخل منذ الصفحات الأولى عالم (جودي آبوت) وقد تبدو حكايتها بسيطة أول الأمر، طفلة لقيطة في ملجأ للأيتام يدعى (ميتم جون غرين) تنشأ فيه حتى الثامنة عشرة حيث لا تستطيع بعد هذه السن أن تُكمل دراستها لمحدودية دخل الملجأ، لكن بعض الموسرين ويسمون بالأوصياء يتكفلون أحياناً بتغطية النفقات للأولاد الأذكياء، وجيروشا (هذا اسمها الذي منحوه لها في الملجأ وستغيره فيما بعد الى جودي) كانت تتمتع بالحيوية والذكاء وموهبة الكتابة، لذا ستجد من يساعدها في دخول الجامعة، وهو رجل محسن كانت مساعداته مقتصرة على الأولاد فقط وليس الفتيات.
جيروشا في الملجأ تقوم برعاية سبعة وتسعين طفلاً، وتعتني بغرفهم وملبسهم وتأخذهم كل يوم الى طابور الطعام وتستمر بعملها لساعات طويلة ملبية أوامر مديرة الملجأ «ليبيت»،وكثيراً ما تسرح بخيالها حين تخلو لنفسها باحثة عن السعادة في مكان آخر، لذلك حينما تبلغها المديرة بأن مُحسناً تبنى مصاريفها سيكون وقع ذلك عليها كبيراً ويوماً استثنائياً في حياتها، وستلتزم بكل شروط ذلك الرجل الذي لا تعرف حتى اسمه ولم تره أبداً، وعليها بحسب أوامر السيدة ليبيت أن تكتب له شهرياً رسالة امتنان تبعثها إليه من خلال مساعده، فتوجه إليه رسائلها باسم صاحب الظل الطويل لمجرد أنها حينما همت بدخول مكتب المديرة لاحظت ظلاً طويلاً لرجل كان قد غادر المكتب، وعرفت بأنه الرجل الذي سيتولى مصاريف دراستها، والذي سيصبح وحده هو عائلتها وستحبه أكثر من الجميع.لم تكن رسائل جودي الى السيد جون سميث (وهذا اسمه المستعار) مجرد رسائل امتنان وشكر، إنها رسائل تتمحور حول التحولات التي طرأت عليها بعد دخولها الكلية، وهي التي لم تخرج الى العالم وتعيشه مثل بقية الفتيات، فجودي فتاة تتمتع بمخيلة خصبة وموهبة كبيرة في الكتابة صقلتها بما حصلت عليه أثناء دراستها من كتب لأشهر كتاب ذلك العصر، حالمة أن تكون كاتبة عظيمة ذات يوم.
وتتجلى تلك المخيلة حينما تقرأ جودي الكتب التي لم تكن متاحة لها عندما كانت في الملجأ، وتغير أقدار أبطالها كما تريد، فحينما قرأت (هاملت) تخيلت نفسها أوفيليا التي لم تقف مكتوفة الأيدي أمام سوداوية هاملت، بل عملت على إخراجه من كآبته وجعلته يصبح ملكاً على الدنمارك لتصبح هي الملكة، والكاتبة جين ويبستر حينما تأخذنا الى مخيلة جودي الجامحة فإن ذلك يعني مخيلتها ككاتبة استثنائية تبني عالمها الخصب من مخيلها هي وتسبغه على بطلتها، وثمة مقولة تأتي على لسان جودي في إحدى رسائلها تقول: إن الخيال أهم صفة يمكن للمرء أن يتسم بها هو أن يجعل الناس قادرين على وضع أنفسهم في مواضع أشخاص آخرين.. ص126 ولا شك أن جين ويبستر هي تلك الكاتبة التي تتصف بهذه الصفة. وسيمضي القارئ وقتاً ممتعاً وهو يعيش كل تلك التحولات والشخصيات والجولات المتواصلة، ويتذوّق ثمار المعرفة التي يقطفها من شجرة الجهد الذي تبذله جودي في الدراسة وفي القراءات التي تتشكل منها أفكارها، وهي تسعى لحياة فاعلة ومؤثرة في سبيل تنمية شخصيتها وتحقيق الذات، ولا تكف عن كتابة الروايات وإرسالها الى الناشرين، ولم تعرف الإحباط حين يعتذر الناشر عن قبول عملها، حتى يأتي الوقت الذي تبدأ فيه كتابة رواية واقعية تنطلق من ملجأ الأيتام، هذا الملجأ الذي أخفت معرفتها به أمام زميلاتها في الكلية وحاولت دفنه في مقبرة النسيان، لكنها أعادته لتكتب عنه روايتها التي تذوقت منها طعم النجاح.
ومن خلال جودي ورسائلها الى صاحب الظل الطويل، سنعرف عادات المجتمع الجديد الذي دخلته، وعادات الشخصيات التي تعرفت إليها في جولاتها، سنعرف ذلك من زوايا نظر مختلفة، ومن الشخصيات التي أثرت في جودي هي شخصية السيد جيرفس عم إحدى زميلاتها في الكلية، وقد منحتها فرصة التجول معه ذات يوم أن يتسلل الى قلبها فتحبه، وهي لا تنكر هذا الحب في رسائلها الى صاحب الظل الطويل، حتى الحفلات والمناسبات التي حضرتها معه ستجد طريقها الى الرسائل مع بقية الشخصيات.. أما الرسالة التي يمكن استخلاصها من رواية صاحب الظل الطويل فهي، كيف تُعِدّ شخصاً جاء من بيئة غير صالحة ليكون شخصاً صالحاً ونافعاً في المجتمع، فاللقيط ليس ذنبه أنه جاء للدنيا بصفته لقيطاً، ومادام قد جاء فمن الأولى أن نفتح له نافذة الأمل ونرعاه لكيلا يتحول الى عبء على نفسه وعلى المجتمع.
إن ما يشغل بال جودي ليس فقط مستقبلها الدراسي ورغبتها بأن تكون كاتبة عظيمة، فهذا أمر يجسده سعيها المستمر للتفوق وتنمية موهبتها، وإنما رغبتها برؤية الرجل الذي أحسن إليها، إنها تكتب له الرسائل فتصله عبر سكرتيره، وهذا الأخير يرد أحياناً برسالة سريعة مطبوعة وليست بخط صاحب الظل الطويل، لذا ستبقى هذه الأمنية حتى آخر صفحات الرواية، ثم تتحقق بعد أن تنهي جودي سنوات الدراسة، فمن هو السيد صاحب الظل الطويل؟ لن أخبر القارئ بذلك لكي لا أفسد عليه متعة القراءة والتشويق والمفاجأة.