عماد جاسم
هل نتفق في البدء تعريف مرضٍ ومقنع عن ماهية الثقافة؟ ولنقل مثلا انها نتاج جمعي، سلوكي وجمالي عبر حقول الفكر والادب والفنون بهدف الارتقاء بالمجتمع.
قد يخدمنا هذا التعريف في اطار بحثنا عن دور المؤسسات والافراد للحد من هيمنة العنف والتخلف والتسلط عبر استثمار منظومة الثقافة مخرجا للأزمات وأملا في تكافل وتضامن المجتمع وحيازة فكرة العدالة والمساواة وتمكين المعارف لتجاوز محنة التجهيل والخرافة.
في بلادنا اليوم، ينظر للثقافة عبر (عوينات) متعددة! يكتفي البعض على تصنيفها ترفا كماليا او عريا او إلحادا! وهناك من يقع في فخ الخطاب السوداوي، معللا ذلك بقصدية التخريب لاماكن وملاذات الجمال والفكر!.
اذا نحن ازاء محبطات عديدة تمنع الطامحين في تحقيق حلم الثقافة المجتمعية وتضعهم دوما في رهانات خاسرة سلفا، واجد ان مجتمعنا بمختلف تلاوينه هو اكثر ايجابية ودافعية من الوسط الثقافي والأكاديمي او من المؤسسات الثقافية والمشتغلين فيها، وهو ليس اتهاما انما قراءة تحاول ان تكون واقعية ومتبصرة، اذا ما عرفنا ان حديث المثقفين في الغالب ينصب حول الاشخاص والصراعات وفعل المهرجانات والبرتوكولات والتجمعات النخبوية والاتهامات المتبادلة والجاهزة والتنكيل بالآخر والتنافس لأجل الاستحواذ والاقتراب، لكسب ود المتنفذين والفاعلين السياسيين على حساب المشروع الثقافي الانساني
الاسمى. خراب المؤسسات والمباني التي ترعى الثقافة نتاج عن غياب الرؤية الموحدة لاستعادة ألق التمدن وجوهر الفعل المعرفي الثقافي، اذ اقتصر الاتكاء على مزاج مسؤولين ووزراء على مدى اعوام خلت، اضافة الى تعليمات حكومية احترفت القصور والتجهيل واطلقت رصاصات الرحمة على امال النهوض بالبنى الجمالية، وغياب الرؤية لا يعني اتهام الدولة فقط حتى وان كانت هي الاداة الاكثر فعالية، لكن المجتمعات الحية والمنظمات الراعية لنبض الشارع الثقافي، لا بد ان تنهض من كسل الاتهام الجاهز وتمارس دور الرقيب والفعل الجماهيري، اذا ما عرفنا ان الحراك الجماهير في ساحة التحرير استطاع بمحدودية، ان يهدد العقلية السياسية ويضع حدا للعديد من التغول على حساب حاجات الناس، فقد حد نسبيا من الرواتب الفلكية والمخصصات وحرك البرلمان للعب دور في اقرار قوانين ضامنة للفئات الضعيفة والترويج لفكرة العدالة والعمل على الغاء المحاصصة بشكل نسبي، واعادة النظر باملاك المسؤولين، ومشروع قانون من اين لك هذا الذي هو قيد
القراءة. المنجز الثقافي لا بدّ أن يعبر الأطر التقليدية بالفهم والتعامل، فهو ليس افتتاح مهرجان او تنظيم فعالية فقط، وان كان ذلك ضرورة في بعض الاحيان،، لكن المنجز الفعلي هو الارتفاع بوعي الناس عبر العمل الجمعي بين اوساطهم، اختراقهم في عقر دارهم، البحث عن اوجاعهم واحباطهم والتحرك في اليات معرفية وجمالية لتنويرهم، استثمار الشعر والموسيقى والمسرح والفنون، لتكون ادوات تشاركية في تعميق الحس الذوقي وبالتالي السلوكي، وهذه المتطلبات والاحلام، لايمكن ان تنفذها وزارة متخمة بمنتسبين وموظفين يجهلون او يتجاهلون دورهم التنويري، ولا يمكن ان نراهن فيها على تخصيصات بائسة او قرارات محدودة التاثير، انها ارادة المجتمع المدني برفقة المثقفين الفاعلين، الذي بشر بهم غرامشي، انها ايضا حتمية نزول الاكاديمي من برج المراقبة والنقد المسلفن والخدر الوظيفي، انها صحوة ضمير المسؤول الثقافي القابع في ازلية المنصب ومغرياته وحتمياته، انها ارتفاع صرخة العمل الجمعي، الذي نترفع فيه عن امراضنا المزمنة، حيث التنصل من العداوات الفردية والتسطيح المتعمد للمشكلات.
فالثقافة هي اخر ما تبقى لنا من قارب نجاة نحو واحة تأسيس مجتمع متعافٍ وهوية وطنية جامعة تقينا التناحر والتجهيل.