.. و{الجديدُ» هذا، ليسَ كاتباً شاباً، وليس كاتباً تراثيّاً، بل نفسُهُ صاحبُ «بيْضٌ صنائُعنا، سودٌ وقائعُنا، خُضرٌ مرابعُنا، حمرٌ مواضينا»، لكنّهُ قرّر أن يولدَ من جديد، بعد أن وُلدَ نحو ربعٍ منه، بديوانه طبعة دار صادر!
عجيبٌ أمرُ الأدب، والتحقيق، تتصوّر أنّ كلّ شيء مستقر، وهذا المتنبي، وهذا المعرّي، وهذا صفيّ الدين الحلّي، وهذا أبو نواس، ولا تزالُ خِزائنُ المخطوطات تُصرّ على أن تُفاجئنا بكلّ جديد.
مُنقّب مُحترف، مثل الشاعر والمحقّق والمترجم محمّد مظلوم، أعاد خلق صفيّ الدين الحلّي مجدداً قبل أعوامٍ قليلة، ليقدّم لنا أعمالاً كاملة، بمجلّدين عملاقين، لا يشبهان مَن نعرفه في طبعة دار صادر، الذي لا يُستذكر حين نتحدث عن الشعر العربيّ، بسبب مقصّ الرقيب الذي أضاع طرافة الشاعر، وأريحيّته، وتهتّكه، ووجوديّته، وظلّ متنُهُ نحيلاً، لا يحضرُ إلاّ حينما يقررُ قومجيّ مجنون استعادة نونيّته الشهيرة!
أمامَنا صفيّ الدين الحليّ آخر، بمتنِهِ الذي صدر عن دار الجمل، والذي ضمّ أشعاره، رسائله، أزجالَهُ، وأغربُ ما في هذا المتن الجديد، هو ما كتبَهُ عن الحشيشة، في متنٍ موازٍ لما يكتبه الشعراءُ عن الخمريّات العجيبة، وفيها من الظرف وحلاوة التشبيه الشيء
الكثير.
المقصّ الأخلاقيّ الذي «بتَّرَ» النصوص، في أزمنةٍ كانت البذاءةُ فيها السلوكَ الذي نراه، أعطتْنا صفيّاً آخر، مثلما أنّ طبعات أبي نواس، كانت تختلفُ عن طبعة دار الفارابيّ، الشهيرة بـ»نشرة فاغنر»، إشارة لمحقّقها الألماني، مثلما أنّ دواوينَ أخرى مُختبئة تحت كلّ ديوان.
من المفارقات الشديدة الغرابة، أنّ الحريّة الفكرية بالكتابة، قبل 10 قرون، أفضل بكثير من حريّتها في التسعينات، أو الآن حتى، فكان الفقهاء يؤلفون ويكتبون ويتغزّلون غزلاً ماجناً، ويطرحون أسئلة خطرة بشأن اللاهوت من دون التفكير بعاقبة، أما الآن فالكلّ يكتبُ ويتلفّت خائفاً من اغتيالٍ أو تشويه
سمعة.
حفر محمّد مظلوم، واستعان بمخطوطات لتراث الحليّ، ليولدَ من جديد، حرّاً وحديثاً، يثبتُ بشكلٍ قاطع أن «العصور المظلمة» هي مصطلحٌ ظالم، لعصرٍ كانت فيه حريّة وحداثةٌ بشكلٍ جيّد، وتطوّر فنيّ مثير للإعجاب.
المنقّب، محمّد مظلوم، خلقَ وجوداً آخر لصفيّ الدين الحلّي، وجوداً تضيع بين تفاصيله الكثيرة، نونيّته المُستعادة قوميّاً وسياسيا!