أحمد رافع
لم يكن للشاعر كليمنت كلارك فكرة في أن يهدي لابنته تشاريتي في حفل عيد الميلاد، بعدما طلبت منه أن يكتب شعرا خاصا بتلك الليلة حتى عبر كلارك عن الحدث الزمني للمناسبة، لتكون العتبة النصية الأولى لقصيدة (الليلة السابقة لعيد الميلاد) إذ استوحى حكاية النص من قصة القديس نيقولاس، فجاء توظيفه اللاشعوري بأسلوب طفولي يعتمد على استذكاره ورسم معالم صورته الأبوية.
لقد ولدت صورة بابا نويل أو سانت كلوز المرتبطة بالميلاد المجيد من تمظهرات قصيدته الفنية واستعادة القديس المنغمس بمساعدة الآخرين وتوزع ثروته بين فقراء المدينة.
لطالما عاش القديس لأجل حياة الآخرين- فالرب يرسل أمناءه ليعتنوا بأخوتهم- وتمجيدًا له من خلال مشاركة البشر وسد احتياجاتهم.
لم تكن شخصية بابا نويل معروفة من قبل إلاّ من خلال قصيدة كلارك عام 1823 الذي يعد نيقولاس ممهدًا لانبثاقها، إذ استعان كلارك بقصتهِ القديمة فجاءت الصورة الأبوية وهي ممتلئة بالتوظيفات
الرمزية. كما أن فكرة استعادة قصة حقيقية تحدث عادة أثرا في نفوس البشرية خاصة عند ربط الاستعارات والبناء الفني لشخصية خيالية، معتمدًا على ذاته الشعورية ومكثفًا بالكثير من الدلالات، فاستطاع أن ينجزها بعد ما أسقط عليها تمظهرات بحس طفولي ودلالة تشير للمحبة عبر صورة لرجلٍ عجوز ذي لحية بيضاء، يبحث عن أطفال المدينة ليحقق رغباتهم في الميلاد بثوبهِ الأحمر في اشارة للحب بين الناس، إذ تعد ذات القصيدة ومكنونها الفني على استذكارٍ خاص في الاستجابة لما يطلبه الأشخاص من أماني الليلة المتمثلة في إتيان بابا نويل على مزلاج ثلجي تجره الأيائل كما يصفه ويدخل منازل الناس حاملا الهدايا.
ولشخصية القصيدة أبعادها الرمزية التي ترتبط بسيكولوجية المسيح فبرز الحدث الأول لولادة نويل من خلال الأبيات الشعرية التي تعبر عن تمظهر الذات الغربية في التعامل مع الأشياء والوجود والإنسان ووصولها للروح البشرية مستجيبة لطلباتهم.
لقد نجح كلارك في إعداد ما كانت تبتغي ابنته الحصول عليه ولم يكن يتوقع أن القصيدة ستنفجر لتصبح رائدة في العالم لاتيانه لبابا نويل في قصيدته، الذي يعد بمثابة الأب البشري والسماوي.
المفارقة هنا أن بابا نويل يعد بشريا وهو يدخل المنازل من المدخنة، ويوزع الهدايا لطفل يبحث عن أب له ليحقق ما يريد ويحلم به، بينما يعد سماويا في أن عطاياه غير مرئية، له القدرة على الاستجابة وهي هنا امتداد لشخصية نيقولاس الذي قضى حياته باحثًا عما يحتاجه
الآخرين. فالصورة وإن جاءت على مستوى التخييل الشعري، إلا أن كلارك أعطى من علاقة المسيح بها طابعاً متميزاً، حتى الفعل الكتابي استند الى واقعة تاريخية تم إحياؤها بصورة تختلف عما كانت عليه سابقًا.
خصوصا أن كلارك كان شغوفا في دراسة الأدب اليوناني والكتاب المقدس وعرف ببديهيته في كتابة شعر المناسبات، الذي ينتهي عادة بمجرد انتهاء تواريخها التي تحدد هيكلية القصيدة وتملي على الشاعر الأسلوب المتبع، إلا أن كلارك لم يكن كذلك فقد وضع لمناسبة الميلاد فلسفته الخاصة في التعامل مع الواقعة وانزياحها بأسلوب تأسيسي لشخصية مكثفة طفولية ورمزية في
آنٍ واحد.
وتعتمد قصيدة المناسبة على عمق فني ويمكن وصفها بأنها نتيجة حتمية لتأثر العلاقة بين الذات المتخيلة والذات الشعورية وتبلغ سمة وجهها في استحداث صورة موجودة ومحاولات لشق طريق جديد يختلف عن سابقه، لتبرير التناغم الحاصل بين الحالة الوجدانية والحدث التاريخي واتخاذ أسلوب مبني على ذات المناسبة نفسها.
وهذا ما جعل قصيدة كلارك تتفرد في خروجها عن صورة الأصل وتمكنه التخييلي في إعطاء مشهد آخر لسباق الحدث وتناوله كما يريد وتطويره بربط علاقات الأشياء مع السابق والاشياء مع الطفل والمسيح، غير أن خروج بابا نويل في كل سنةٍ لا يميت اللحظة الشعورية عن الذاكرة والمكان في التعبير عن اللاوعي، بل يخلق جو من الهيام ويجعل من فعل الاختفاء انتظارا لانبعاث جديد في ديناميات الحياة المختلفة، ولعل ما يمتلكه نويل من فيض المحبة يتحول في الطفل لإحياء أب مثالي يترقبه عبر النافذة، مما يخلق في ذاته قبولا لانشراح صدره بيومٍ جديد في كل عام.