ياسين طه حافظ
الإنسان واحد من مخاليق الطبيعة الكثر، وهو مثلها يولد ويعاني- أو يعيش ومثلها اما يقتل – يفترس أو يقاد فيذبح، ومثلها أيضاً بعد ظروف مختلفات، جيدة ورديئة، يموت.
يبدو في هذا الكلام تسفيها تاما لمعنى الحياة كما علمتناه الكتب والادراك الجديد الذي حققه الانسان في تحضره.
فمع هذا الادراك ومنه، بدأ التساؤل عن معنى الحياة وكيف يمكن أن نعيش بقناعة وبرضى ونحن متجهون الى المصير.
بدأ التساؤل افكاراً واشعارا وتأملات ويأساً من إجابةٍ أو حل. شهدت الازمنة هاربين او مستائين، آبقين أو طامحين بسلوى في البحار البعيدة أو رهبان متوحدين مع الكون والانواء.
وهو هروب بصيغ ايمان أو اكتئاب أو ليخف الألم بعيداً عن مصادره. في كل حال هو هرب من الصخب والاشتباك إلى السكينة، وترك الأمور لما تقدره السماء.
وبسبب من هذا العجز وهذه المحنة، ولاستمرارها عبر الاجيال، أدرك البشر أن الصدفة، اقوى مما يرسمون ويقدرون، وانها التي تتحكم في اتجاهات الحياة واحكامها الاخيرة فهبوب الرياح المفاجئة قد تغرق السفينة المطمئنة او تغير اتجاهها فتنقذها ويصل بحارتها سالمين، وأن مروراً غير مقصود قد يصادف خيراً وقد يؤدي بصاحبه فيموت.
وهذا هو ما جسّده المسرح الاغريقي وهو هذا أيضاً ما يتحكم في العقل الشعبي الهندي.
هذا الايمان يكاد يكون ايماناً شرقياً سائداً وإن لم يخلُ منه الغرب.
لكن الايمان بالمقدر والمكتوب سلفاً بعد العماء الطويل، مرحلة متقدمة في تاريخ الوعي البشري، وهذه المرحلة غير منفصلة عما كان قبلها، غير منفصلة عما واجهه اسلافهم بعد بدء الوعي. فأوكلوا امرهم لخالقهم فهم له وله
يرجعون.
هذا الايمان منحهم راحة كما يمنحهم دائماً املاً بعون و شفاء أو دفع شر هو استسلام يوفر جهداً ويترك الأمور كما هي عليه.
بقي السؤال: كيف يجد الإنسان الرضا في هذه الحياة –حياته– وحتى تنتهي الرحلة بانطفائه؟ هو يحتاج الى طعام وسقف يحميه من النوء وحماية من الاذى وحشاً كان مصدره أو
انساناً.
ولكي يسلم ويرضى، لابد من أن يسلم غيره منه ويرضى. اذن لا بد من وفاق مثلما لابد من رضا وإرضاء. الاديان والقيم الانسانية والمثُل والاعراف قامت بهذه المهمة، لكنها لم تستطع منع الخرق ولا الاستبداد والهيمنات ثم المصادرة
والاخضاع.
هذه الاشتباكات ولدت الحاجة إلى الفضيلة وهنا بدأت مشكلة أخرى الفضيلة محكومة أولاً بالاكتفاء، ثانياً بالسيطرة على الذات فلا تتجاوز إذا احتاجت، والأخير أصعب الشروط.
وهو لا يتم الالتزام به، تنفيذه، باستمرار، فبقيت البشرية تشكو منه ولا تجد له حلاً.
يقول ارسطو: "إن الناس الطيبين الذين لا يمتلكون الموارد، لايمتلكون فرصا لممارسة الفضيلة"، فكيف تتيسر هذه الموارد للملايين من ناس العالم الذين لم ينحدروا من أسر تمتلك جاهاً وأرثاً ومالاً، وهي ثلاثة أمور تجلب السيادة ثم المزيد من المال؟ بهذه الاستحالة اختل شرط من شروط وجود الفضيلة ولتبقى محمية فلا اختراق لها او تجاوز.
اظننا في الانشغال الادبي، ندور في هذا الجو المحير والمأساوي في كثير منه وننشغل بتفاصيله ساعين لكشف ما يجري، ولعلنا. نخفف ألماً او نرى حلاً. على أية حال، نحن في الأدب نصنع سلوى!
فلا قارئ أدب، لايجده مأساويا. إن لم يكن مأساوياً، فعدم الرضا الأسف وخيط المررة، أو ثلاثة مشاعر ثلاثة مذاقات لذلك الحال القلق حاضرة في السطور.
ليس أكثر من الأدب كشفاً أو للرضا والشعور بالخسار، وهو في هذا الكشف توصيفاً ومتابعة وتأويلاً، يقدم توثيقاً للمشاعر الإنسانية التي تصحب العيش على الأرض، الأدب يقول لنا عن الحال التي عاشها ويعيشها الانسان.
البحث عن الرضا، عن الاكتفاء الروحي والمادي، عن الحياة الخيرة، يظل بحثا، ولن ينقطع أو يتوقف هذا البحث ما دمنا نعيش الحياة بظروفها. هذا شرط الحياة ونحن لا نستطيع فعلاً. فعلينا الصمت امام شرطها القاسي، ويبقى الناس كما هم ، كل يجد رضاه الضئيل الهيّن ليستسيغ خبزَه!
رأيت امرأة وسطاً محنية على منول نسيج، تنسج أو تحوك بساطاً وتتفقد خطوط الوانه. لم تنتبه لي حتى وقفتُ واحدثتُ صوتاً. المهم قبل ان تنتبه لي، قبل أن تراني، كانت تبتسم بفرح لألوان
البساط. هذه المرأة وجدت الرضا وبقيت أنا، حتى اليوم ابحث عنه!