د. يحيى حسين زامل
مرت علينا قبل أيام رأس السنة الميلادية، والتي احتفل بها أكثر سكان الأرض بمختلف ثقافاتهم، ولكن في الوقت نفسه عاب بعض أبناء المجتمعات أو انتقد احتفال بعض البلدان الشرقية والعربية بهذه المناسبة، لكونها مناسبة غربية، وذات طابع ديني مسيحي، وكان نقدهم بناءً في الحفاظ على الخصوصية الثقافية لبلدانهم، والتي اصبحت خاضعة بقوة الثقافة المصدرة، لتلك القوة الغربية المتصاعدة
ومما يجب ملاحظته أن الثقافة (Culture) بالمنظور الانثروبولوجي، هي غير منظور الثقافة السائد، ومن كون الثقافة ذات طابع أدبي، وكون المرء مثقفاً لأنه كاتب أو شاعر أو فنان، وللتوضيح فإن للثقافة اليوم أكثر من مئة وخمسين تعريفاً، أشملها تعريف الأنثربولوجي البريطاني “إدوارد تايلور” بأنها: “ذلك الكلّ المركّب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والأخلاق والقانون، والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع”. أي أنها مجموعة مركبة ومعقدة من العناصر الثقافية المترابطة والمتعددة التي ترتكز في مجتمع ما.
ويأتي تأثير “الثقافة” بشكل مباشر أو غير مباشر نتيجة لقوة الثقافة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والحضارية، وكلما كانت الثقافة شاملة ومرنة ومتفاعلة وذات عمق اقتصادي واجتماعي وتكنولوجي، كلما كانت أقوى في التأثير على الآخرين، ولعل هذا الذي نشهده اليوم من احتفال الكثير من المجتمعات خير دليل .
ولعل هذا ما أشار إليه “ابن خلدون” في مقدمته من أن الثقافة الأقوى تفرض أسلوبها على الأضعف من ناحية اللغة والدين والطبع ( أو التطبيع كما يحدث الآن في بعض الدول العربية)، وتفرض سلطتها بشكل عابر للحدود والبلدان، كما يحدث الآن بواسطة وسائل العولمة، والاتصالات والاعلام، فثقافة الطعام والأزياء والشعر والأدب والفن والتكنولوجيا أصبحت منتشرة بشكل كبير، وتكاد تغطي على الثقافة الشرقية والعربية، إذ انسلخ أكثر أبناء المجتمعات عن ثقافتهم الأصلية، واصبحوا يدينون بثقافة مستوردة، أغرتهم بكثرة مباهجها، إلا من محاولات من هنا وهناك تحاول الاحتفاظ على ما تبقى، أو استعادة ما مضى.
والحال أن المنتقدين نفسهم، يمارس أبناؤهم مظاهر الاحتفال والتأثر بهذه الثقافة، بمعنى أنهم غير قادرين من السيطرة على أبنائهم، فكيف يواجهون ثقافة عالمية وكونية مدعومة بشركات عابرة للقارات، وذات اقتصادات متشعبة ومركبة.
لا أريد أن أوضح بهذا المقال المختصر سبب التدهور الثقافي والحضاري الذي نعيشه، فذاك موضوع طويل وكتب فيه الكثيرون من دون فائدة، ولكن أحب أن أبين أن مواجهة هذه الثقافة - الغربية والرأسمالية- لا تأتي من فراغ، ولا يمكن مواجهتها بواسطة مفاعل نووي، يعرض بلدي لضربة عسكرية (كما حدث في العراق) أو يفرض حصاراً على بلدي، (كما يحدث في إيران)، بل من خلال التطور الاقتصادي والتكنولوجي، ورعاية العلم والعلماء، ورعاية التعليم والصحة والسكن، عندها يمكن أن نستعيد دورنا الحضاري الذي فقدناه في عصور سابقة، من خلال موضوع “ التحدي والاستجابة” الذي ذهب اليه المؤرخ البريطاني “ توينبي”(Toynbee)، ومن أنه يمكن للحضارة أن تستعيد قوتها من خلال “الدافع الحيوي”(Elan Vital)، وهي الطاقة الكامنة لدى الفَرد والمجتمع، والتي تنطلق بغرض التحقيق الذاتيّ والموضوعي للحضارة، ويكون ذلك عن طريق المبدعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة المُلهَمين، إذ تستجيبُ لهم الأكثريَّةُ عن طريق “المُحاكاة الآليَّة” Mimesis)) التي تُمثِّلُ الطريقةَ الغالبة في عمليَّة الانقياد الاجتماعيّ.
بمعنى أنه يمكن من استعادة “قوة ثقافتنا” من خلال تطورنا وتقدمنا في الوسائل والأساليب العلمية والتكنولوجية، بواسطة التكيّف مع الموارد الطبيعية والبشرية واكتساب الخبرات والادوات المتاحة في بلداننا والعالم، والاهتمام بكل ما يجعل بلداننا ومواطنينا في درجة عالية من الرقي والتقدم والثقافة.